الحفلات الفنية بين المؤيدين والمعارضين

  • 2/5/2017
  • 00:00
  • 40
  • 0
  • 0
news-picture

يهمني النأي بالفنون جميعها عن الصراع أو جعلها إحدى أدوات الصراع الإيديولوجي بين التيارات المختلفة في المجتمع والاستمتاع بالفنون بوصفها فنوناً وليس شيئا آخر جدل كبير في السعودية يحصل حالياً مع عودة الفنون إلى الواجهة من جديد بعد انقطاع سنوات عديدة، سواء في الحديث حول حفلات الغناء، أو تلك التي تدور حول أهمية وجود صالات سينمائية، وما بين هذا وذاك يظهر تياران عريضان في المجتمع يتصارعان حول أهمية تواجد هذه الفنون في الحياة الاجتماعية السعودية، إذ يحشد المؤيدون كل ما يمكن أن يحشدوه في إعطاء الفنون قيمة حضارية عليا تنقل المجتمعات إلى مصاف المجتمعات الكبرى، في حين يقف المعارضون على الضد من ذلك، ويحشدون كل ما يمكن حشده في تبيان ضلال الفنون وجعلها سبباً من أسباب دمار الأخلاق، وهذان التياران نجدهما في الواقع الافتراضي أكثر من الواقع الحقيقي، ويحمل في طياته رسالة أكبر من الفن نفسه، بوصفه إما تقدما أو تخلفا وضياعاً، والفن في طبيعته لا يدور في إطار هؤلاء ولا أولئك، حيث إن البعض يرى أن الفنون تهدف إلى حمل رسالة محددة، مما يعني أنهم أعطوا الفن قيمة توعوية ذات أهداف محددة ومقصودة، وفي رأيي أن الفن ليس رسالة، وإنما هو فن خالص لا يحمل أي قيمة غير القيمة الفنية بعيداً عن أي إسقاطات، وإن كانت موجودة فهي من قبيل ما هو موجود في الحياة ويتكئ عليه الفن وليس حملا لقيمة رسالية يمكن أن يحققها الفن من خلال ذلك، ما يعني أن الانتصار للفن أهم بكثير من الانتصار للأيديولوجيا الفكرية سواء تلك التي تذهب في صالح الأعمال الفنية أو تقف ضدها. شخصياً أنا ممن يؤيد وجود كل أشكال الفنون في المجتمع بشكل علني وجماهيري، لكن في رأيي أنه لا يجب أن ينجر هذا الوضع إلى صراع جماهيري بين من يجعلها قيمة تقدمية تهدم قوى الظلام كما يتصورها المؤيدون لوجودها، أو من يراها ضلالا يفسد المجتمعات ويجب إزالتها أو الوقوف ضدها كما هو تصور المعارضين. الفن يجب أن ينأى بنفسه عن هذا الصراع ويبقى فنا خالصاً، فالفنون بشكل عام، ومنها حفلات الغناء والسينما وغيرها، أدوات تعبيرية وأدوات اقتصادية أيضا حالها كحال الفنون الأخرى، ولا تستدعي كل هذا الهياج في الاعتراض، وكأننا أمام تحولات خطيرة جدا سوف تفسد أخلاق الشبيبة، تذكرنا بسنوات التسعينات حينما كانت المنابر تحذر من وجود الفضائيات، وهي التي حصل لها كما حصل للسينما من اعتراض نسيه الناس أو تناسوه. إن الجدل الذي تثيره الحفلات الغنائية يفتح أمامنا بوابة من التساؤلات الذهنية عن علاقتنا بالفنون عامة، بغض النظر عن المستوى الفني، وهي علاقة للأسف لا تتسم بالتصالح بقدر ما أنها نوع من الترفيه؛ هذا إذا استطاعت الإفلات من قبضة المحرمات والضلال والفسق والمجون، في حين أنه يتعدى ذلك لدى الأمم المتحضرة إلى صياغة وجدانية ورؤية تعبيرية عن الحياة والناس والكون، فهي عمل إنساني يستحق الاهتمام، كما أنها مؤشر لتقدم المجتمعات أو تراجعها، لكنها لا تقدمه أو تؤخره فهي نتيجة وليست سببا كما يتصارع حوله المتصارعون، "وإذا كانت العلوم تعقلن العلاقات بين الأشياء، فإن الفنون تؤنسنها" كما يقول الدكتور: معجب الزهراني. فالحضارات المتقدمة تعطي جانباً قوياً من جوانبها الثقافية للفنون عامة، والذين يرفضون الفن إنما يرفضون قيمة إنسانية متأصلة في الجنس البشري، فالفنون أحد أشكال التعبير الإنساني منذ الإنسان الأول حيث مارس الفن في تعبيره للحياة قبل أن يمارس الحضارة كعقل وعلم؛ ومن الطبيعي أن تتطور الفنون وتأخذ أشكالاً عديدة، حيث كان الفن الغنائي من أكثر الفنون حضورا في التاريخ البشري في حين تأتي السينما لتكون أقرب الفنون إلى أنفسنا في العصر الحديث، لذلك من الطبيعي أن تكتسح الآفاق انتشاراً خلافاً للفنون الأخرى التي لم تستطع حتى الآن أن تصل إلى ما وصل إليه الفن البصري المتحرك من جماهيرية، ذلك أنها تعبير عن ذواتنا العصرية والمحقق الفني لطموحاتنا المعاصرة، وهذا ما جعل بعض نقاد ما بعد الحداثة يفردون كتابات خاصة لتحليل الأعمال السينمائية كجيل دولوز، إضافة إلى الفن الغنائي الذي كان ولا يزال هو أكثر الفنون إشكالية في الثقافة الإسلامية وأكثرها وجوداً وانتشار. إذن.. فالذين يقفون مواقف مناهضة للفنون إنما يرتكزون على الموقف القديم من الفن عموماً، والأعمال الفنية بعمومها من أقوى تلك الأعمال التي تخاطب الناس بكل توجهاتهم وأجناسهم، وهي كذلك عمل ثقافي حاله كحال أي عمل فني آخر، والفنون من أهم الأعمال الثقافية بل "تكاد" أن تنطبع الثقافة بالفن على اختلاف أشكاله: الفن الكتابي. الفن البصري. الفن السماعي.. وغيرها من الفنون الأخرى، ما يعني أن وجودها وجود ثقافي في الأساس؛ لكن يبدو أن نظرتنا للثقافة فيها نوع من الخلل فضلاً عن الفن، فالذين رفضوا وجود الأعمال الفنية لهم مواقف أخرى من عموم الثقافة، وليس فقط الثقافة الفنية. الذي يهمني في نهاية هذا المقال ليس الموقف الثقافي أو الموقف الحضاري أو الموقف الديني بقدر ما هو النأي بالفنون جميعها عن الصراع أو جعلها إحدى أدوات الصراع الإيديولوجي بين التيارات المختلفة في المجتمع والاستمتاع بالفنون بوصفها فنوناً وليس شيئا آخر.

مشاركة :