إنَّ الوسائل أو الوسائط المتاحة في عالمنا اليوم لجعل الأدب قابلاً للحياة في خضم التقنيات الحديثة واندحار القدرة على التأمل وقراءة الأدب، أصبحت ضرورة ملحّة، وربما الموسيقى والقصائد المغناة تُعّدّ واحدة من تلك الوسائل المُلهمة. العربمحمد حياوي [نُشرفي2017/02/05، العدد: 10534، ص(14)] اعتادت الأوساط الثقافية والأدبية، عقب إعلان الفائز بجائزة نوبل في كل عام، على التسابق والبحث عن الأعمال الأدبية للداخل الجديد إلى هذا النادي ذي البريق الذي يخطف الأبصار، كما يستعد الناشرون في العادة للتسابق من أجل الفوز بعقود نشر تلك الأعمال أو ترجمتها إلى لغاتهم طمعاً في تحقيق الأرباح الكبيرة من المبيعات المتوقعة التي تتجاوز في العادة ملايين النسخ. لكن نتيجة هذا العام جاءت مخيبة لآمال الناشرين، بعد أن أعلنت لجنة الجائزة منحها للمغني والعازف وكاتب الأغاني الشهير بوب ديلان، الأمر الذي جعل مولد هذا العام ينفضّ بطريقة مُبكرة وكئيبة إلى حدٍ ما، على الرغم من مكابرة بعض الناشرين الأميركان والأوروبيين وتخطيطهم لنشر كلمات أغانيه في كتب يأملون أن تحقق انتشاراً من نوع ما لدى جمهور القرّاء الذين اعتادوا تلقف كتب الفائز واقتنائها، وفي حالة بوب ديلان قد يدفعهم توصيف لجنة الجائزة لقصائده المغناة على أنَّها “أنشأت تعبيرات شعرية جديدة في الأغنية الأميركية التقليدية”، وعلى الرغم من أن اكتشاف تلك التعبيرات لا يتم عن طريق قراءة نصوص الأغنيات بقدر سماعها، إلّا أنَّ النص يبقى سيِّد التعبيرات على الإطلاق، لا سيما بالنسبة إلى هؤلاء الذين لا يجيدون الإنكليزية ولا يمكن أن يتلمسوا عذوبة وسحر الكـلمات بواسـطة الموسـيقى. وعلى الرغم من الجدل القائم بشأن استحقاق ديلان للجائزة من عدمه، تبقى نصوصه -الشعريةـ مجازاً، نصوصاً ذات موضوعات إنسانية شفيفة ومتانة لغوية وعذوبة لا تخفى على أحد على الرغم من قصرها. لكن متى كان طول النص أو قصره مؤشراً على الجودة؟ فقصائد بوب ديلان، أو نصوص أغانيه إن شئت، ليست أقصر من قصائد بابلو نيرودا على سبيل المثال، على الرغم من أن قصائد نيرودا لم تُجسّد تماماً على المسرح أو تُغنّى، ولعل الأمر نفسه ينطبق على مسرح هارولد بنتر وداريو فو. لقد جعل بوب ديلان، انطلاقاً من همّه الإنساني، كل شيء يدور حول عمله ونتاجه الفني وليس حول شخصه، وهذا واضح من عدم حضوره مراسم الاستقبال الخاصّة بتسلّم الجائزة واكتفائه بإرسال رسالة إلى ذلك المحفل الذي يصبو إليه أغلب الأدباء في العالم، قال فيها، من ضمن ما قال، “طالما تساءلت فيما إذا كنت أكتب أدباً أم لا؟”، أو “إنَّ أعظم جائزة حلمت بها في حياتي هي أن أسمع أغنياتي تُبثّ من الراديو”. بهذه الكلمات وصف المغني-الشاعر رؤيته وزهده بالجائزة التي لن تجعله يحيد عن قناعاته كمغنٍّ متجول بدأ رحلته الساحرة منذ العام 1988 حتّى اليوم، كما أنَّها لن تغير خططه في تنظيم حفلاته الجماهيرية عبر العالم، بما في ذلك حفلته التي ستقام في أبريل المقبل في مدينة أونتفيرب البلجيكية التي بيعت تذاكرها منذ الآن. وفي المحصلة فإنَّ الوسائل أو الوسائط المتاحة في عالمنا اليوم لجعل الأدب قابلاً للحياة في خضم التقنيات الحديثة واندحار القدرة على التأمل وقراءة الأدب، أصبحت ضرورة ملحّة، وربما الموسيقى والقصائد المغناة تُعّدّ واحدة من تلك الوسائل المُلهمة، إلى جانب السينما والنصوص الأدبية المحوّلَة إلى سيناريوهات، ولا أدري إن كانت لجنة جائزة نوبل، عندما قررت منح الجائزة لمغنٍّ واعية بهذه الحقيقة أم أن قرارها جاء نتيجة لحسابات سياسية كما اعتدنا دائماً. وفي جميع الأحوال أعدُّ فوز بوب ديلان بجائزة نوبل خطوة من نوعٍ ما لدفع الأدب إلى الواجهة الجماهيرية ومنحه حقنة منشطة طالما كان بحاجة ماسّة إليها في السنوات الأخيرة. كاتب من العراق محمد حياوي :: مقالات أخرى لـ محمد حياوي بوب ديلان الجائزة والناشرون, 2017/02/05 سلوكيات جاهلية في الأدب , 2017/02/01 العربية تنتشر , 2017/01/28 لمن يجرؤ على العقلانية , 2017/01/25 مجلة الآداب عنقاء الورق, 2017/01/15 أرشيف الكاتب
مشاركة :