طل على الجمهور بملامح وجهه الجادة، وبتجسيد شخصيات لم تخرج أغلبها عن دائرة «المعلّم»، إضافةً لبنيانه القوي الذي يدل على إمكانية إخضاع من حوله لصالحه، وهو ما استنتجه الكثيرون من واقع أدوار الشر التي لعبها. كل هذه الأمور غطت على ظروفه وتكوينه الذي جعله شخصًا مغايرًا لما شاهده الجمهور عليه، ليختفي عن أنظار الجميع ثقافته الواسعة وآراؤه السياسية المناهضة للسلطة باختلاف الرؤساء والملوك، والتي أفضت في النهاية إلى اعتقاله. بهذا التناقض عاش الفنان الراحل علي الشريف، بين ظروف صعبة أثرت عليه شخصيًا طيلة حياته، وظهور بشكل مخالف لطبيعته أمام كاميرات السينما، وهي الأمور التي دفعت «المصري لايت» للتوجه إلى نجله حسن علي الشريف، والذي روى تفاصيل عدة عن والده في ذكرى وفاته رقم 30. . النشأة وتبدّل الاسم تعود جذور عائلة «الشريف»، والتي ينتهي نسبها إلى الإمام الحسين، إلى المملكة العربية السعودية، وفور اجتياح حركة محمد بن عبدالوهاب للأراضي الحجازية اضطرت إلى الهجرة للسودان والمغرب ومصر، ويقول «حسن»: «إحنا الجزء اللي جم مصر واتفرقنا في مناطق مختلفة، في منهم في الصعيد واحنا استقرينا في ميت عقبة». وُلد الفنان علي محمود الشريف في 3 يناير 1934 بمنطقة ميت عقبة في محافظة الجيزة، وفي الأوراق الرسمية يُدعى محمد محمود علي الشريف، وهنا يوضح «حسن» الأمر قائلًا: «أبويا كان مولود معاه توأم، كان هو اسمه علي فعلًا، والتوأم اسمه محمد، جه محمد مات وعلي هو اللي عاش، بس جدي راح سجل إن علي هو اللي مات ومحمد هو اللي عاش». ومن هنا استمر الأهل والأخوة ينادونه بـ«علي»، لكنه في الأوراق الرسمية يحمل اسم شقيقه المتوفى «محمد»، ويقول «حسن»: «واضح إن جدي فضل اسم محمد على عليّ ساعة التسجيل». التحق «علي» بمدرسة «الشجيع» بمحافظة الجيزة، وقضى فيها مراحله التعليمية الأولى، وفي عام 1956 التحق بكلية الهندسة، لكنه ما لبث أن حوّل أوراقه إلى كلية التجارة، بسبب صعوبة الأولى، خاصةً مع بدء نشاطه السياسي. . العمل بالسياسة وإهانته للملك ذكر «حسن» أن والده بدأ العمل السياسي وهو في سن 16 عامًا، وكان منتميًا للحزب الشيوعي المصري في تلك الفترة، وشارك في العديد من الفعاليات والتظاهرات المناهضة للملك فاروق الأول، كان من أبرزها أحداث فتح كوبري عباس وغرق العديد من الطلاب، ويقول: «أبويا كان رياضي وبيعرف يعوم، وحاول ينقذ شوية منهم». خلال تواجد «علي» بالحزب الشيوعي المصري قرروا تنظيم عملية لإلقاء المنشورات في وجه الملك فاروق الأول، حينها تقدم صاحب الـ16 عامًا لتنفيذ تلك المهمة، ويروي «حسن»: «كانت الحمية واندفاع الشباب وخداه، ولما الحزب طلب كده هو اللي اتبرع بالتنفيذ، ورمى الورق في وش الملك». . المعاناة داخل المعتقل في عام 1958 اعتقلت السلطات علي الشريف بتهمة قلب نظام الحكم، وكان حينها منتميًا لتنظيم «حدتو»، وهنا يقول «حسن»: «هو كان مؤيد لثورة يوليو بس كان في اختلافات مع عبدالناصر»، ليقضي أيامه الأولى وراء القضبان في سجن القلعة، قبل أن ينتقل إلى سجن الواحات. ونقل «حسن» حديثه إلى الظروف الصعبة التي عانى منها والده، ويروي: «أبويا كان نشط جدًا طول عمره، وكان يمارس المهام الصعبة اللي مكنش حد بيحب يتقبلها لصعوبتها، حتى في المعتقل كان يمارس شغلانة المسجون كإنه بيقبض آخر اليوم». «طريحتين في الأسبوع»، هو ما تلقاه «علي» من تعذيب بشكل دائم، ووفق ما حكاه «حسن» كان السجين يدخل في غرفة مظلمة وخلفه السجّان حاملًا «شومة غليظة»، ثم ينهال بالضرب على كل فرد يقول «حسن» إن والده كان يتمتع بقدر كبير من التحمل، حتى أنه كان يداوم على أن يكون هو أول من يبدأ السجّان بتعذيبهم في كل «طريحة» تخفيفًا عن زملائه المحبوسين: «هو كان من أوائل الناس اللي بيدخلوا عشان يرهق السجّان، فيضرب اللي بعده بقوة أقل». الأمر لم يتوقف عند «الطريحة» فقط، بل ازداد إلى حد «تجويع» المعتقلين بتعمد تأخير وصول سيارات الأطعمة لمدة تصل إلى أسبوع و10 أيام، ويروي «حسن»: «الناس كانوا يتضوروا من الجوع أسبوع و10 أيام، واللي بييجي مش ولائم، ده حد الكفاية». «الحاجة أم الاختراع»، من هذا المنطلق اضطر «علي» إلى زراعة الأرض للتغلب على الجوع هو وزملائه، ويحكي «حسن»: «أبويا باعتباره فلاح زرع المنطقة اللي حواليه طماطم وخيار وخس وبصل»، وعن ترك السجّانين له يفعل ذلك قال: «السجّانين كانوا بيقدروا ينزلوا مصر ياخدوا راحة يومين، إنما كلهم كانوا عايشين عيشة الضنك المعتادة زي المسجونين». وعن سجن الواحات يقول «حسن»: «الأبواب كانت مفتوحة للي عاوز يهرب، بس اللي يهرب هيموت قبل ما يوصل لأقرب نقطة، والمعتقلين واثقين إن اللي هيهرب هيموت». كان يعاني والد «علي» كثيرًا حتى يزور نجله في سجن الواحات، وفور وصوله في إحدى المرات قال له مأمور السجن حسب رواية «حسن»: «جه مأمور السجن قال له اقعد مع علي وخليه يمضي لنا على ورق، وهتاخده في إيدك انت وماشي، إنه يعترف على زمايله يعني، فلما جدي عرض الأمر على أبويا انفعل جدًا، وكان رايح يضرب مأمور السجن، وكان بيقول هو إزاي حتى يفكر إن المسألة توصل لكده وكان هيضربه، وجدي لما شاف كده راح واخد بعضه ومشي». وعن الإصابات التي عانى منها والده بسبب المعتقل أوضح نجله أن ظهره كان به جروحًا غائرة بفعل ضربات «الشومة» التي كان يتلقاها، مرجحًا أنه عانى من زيادة في الكالسيوم، بسبب حرارة الشمس العالية التي تعرض لها أبيه. وروى «حسن»: «ضوافره مكنش بيعرف يقصها لإنها كانت صلبة، كان ينقع رجله في ماية سخنة وبعدين يقصها، والقصافات كانت بتتقطم، كان بيستخدم مقص السمك». ومن الآثار الأخرى التي تبعت فترة الاعتقال هو إصابة «علي» بفوبيا من النوم في الأماكن المظلمة، مع فتحه للأبواب والنوافذ، ويروي الابن: «كان ما ينمش والنور مطفي، مكنش بيحب يقفل الباب حتى باب الشقة، مكنش بيحب يقفل الشباك حتى في الشتا». وتابع: «طول الوقت الشبابيك والبيبان مفتحة والنور منور، يحب ينام على صوت الدوشة مش الهدوء، كانت الغسالة القديمة صوتها مزعج ويحب ينام عليها، أو على صوت الوابور، أو ينام وإحنا بنطنطط حواليه بما إننا كنا صغيرين، وده كان بيحسسه بالأمان أكتر من الهدوء». . المعتقل يُظهر موهبته كان من زملاء علي الشريف داخل المعتقل أحمد فؤاد نجم، وعبدالمنعم سعودي، والسيناريست حسن فؤاد، وفؤاد حداد، والشيخ إمام، وبوجود هؤلاء المبدعين دشنوا مسرحًا رومانيًا داخل المعتقل حسب رواية «حسن»، وكانوا يؤدون الكثير من العروض: «كانوا بيكتبوا مسرحيات ويخرجوها، وكان أبويا عمل دور واحدة ست، عمل شخصية (أم مارسات)، ونال استحسان زمايله وكانت بداية احتكاكه بالتمثيل من هنا». في تلك الفترة عكف السيناريست حسن فؤاد على كتابة فيلم «الأرض»، وانتهى من عمله بالفعل، وبعد خروجه من المعتقل سلم الأوراق للمخرج الراحل يوسف شاهين، والذي بدأ في إسناد كل دور لممثل بعينه. في تلك الفترة خرج علي الشريف من المعتقل بعد 6 سنوات، وفور انتهاء يوسف شاهين من اختيار الممثلين لم يحدد بعد من يجسد شخصية «دياب» في فيلم «الأرض»، حينها قال له السيناريست حسن فؤاد: «طب أنا هفرجك على واحد»، وهنا أردف «حسن»: «مجرد ما أبويا دخل قال يوسف شاهين: هو ده دياب». وبالفعل بدأ علي الشريف في احتراف التمثيل لأول مرة مع تصوير فيلم «الأرض» في 1968، وهو العمل الذي تم عرضه في دور السينما عام 1970، ويحكي «حسن» عن تلك الفترة: «الناس استغربت إن الراجل ده مدخلش معهد تمثيل وأول مرة يمثل بهذا الأداء العفوي المتزن، والحمد لله أخد جوايز، في مهرجان جمعية الفيلم جائزة أحسن دور تاني، وجائزة من موسكو ومن برلين». . ما بعد «الأرض» يقول «حسن» عن المرحلة التي عاشها والده بعد فيلم «الأرض»: «مكنش لسه قالب المعلم اتبلور»، وشارك حينها في أفلام «الاختيار» و«العصفور» مع المخرج يوسف شاهين، و«يوم الأحد الدامي»، و«فجر الإسلام». بدأ الفنان علي الشريف في تجسيد دور «المعلّم» من فيلم «أفواه وأرانب» عام 1977 حسب رواية «حسن»، وتابع: «هو عمل حاجات كتير شبه بعض، كانت الأدوار التقيلة اللي فيها تمثيل لما بتيجي لأبويا كان بيجري عليها ويعملها كويس أوي، وأغلبها كانت مع يوسف شاهين». وبعد هذه البدايات تواجد علي الشريف في أغلب أعمال الزعيم عادل إمام، والذي سطع نجمه في تلك الفترة، ويحكي «حسن»: «والدي انتقل لمرحلة عادل إمام، وظهر في أفلام شعبان تحت الصفر، ورجب فوق صفيح ساخن، ورمضان فوق البركان». . علاقته بـ«الزعيم» كانت الصداقة هي الرابط بين الفنان الراحل علي الشريف والزعيم عادل إمام، وظهرا سويًا في عدة أفلام، ويروي الابن: «هما طبعًا عملوا شغل كتير في منها ما بيتعرضش، مثلًا زي فيلم ليلة شتاء دافئة، وبعدين توج الأعمال مع عادل إمام بأهم الشخصيات كانت (بكري الصعيدي) في فيلم الإنسان يعيش مرة واحدة، و(المعلم أبو دومة) في فيلم كراكون في الشارع، والمتسول»، واستدرك: «بس أبويا ما اشتغلش معاه مسرح، لإن لما عادل يبدأ مسرح كان بيبقى عند والدي مسرح، وده السبب». يقول «حسن» عن والده إنه كان «بيتوتي»، أي في وقت فراغه يفضل الجلوس في منزله، لكنه كسر تلك القاعدة عندما يعلم بتصوير عادل إمام لفيلم في منطقة ما: «لو بيصور عادل إمام في سفنكس، وإحنا قاعدين في العجوزة، كان يروح يزوره»، كما أنهما كانا يتبادلان الاتصالات الهاتفية باستمرار. هذه الحميمية استمرت بعد وفاة علي الشريف، ويروي «حسن»: «كنت في مسرح عادل إمام رايح أزور مصطفى متولي في مسرح الزعيم، دخلت في وقت متأخر وبتمشي في الكوريدور، وقبل فتح الستار هو بيعدي على معظم الغرف بيتطمن على زمايله ويشجعهم». وأردف: «لما شافني سأل الأمن عني، وقالوا له ده ابن الفنان علي الشريف، فقال لي: «حسن.. واخدني بالحضن»، وكان عُمر «حسن» حينها 19 عامًا، ويروي عن تلك المقابلة إن «الزعيم» سأل عن جميع أخوته وذكرهم بالاسم، وكانت عيناه تدمعان، وهو ما يدل على صدق علاقته بالفنان الراحل علي الشريف حسب رواية الابن.
مشاركة :