تعتبر قصة حياة الكونت البولندي فاتسواف سيفيرين جفوسكي من القصص المثيرة التي يمكن أن تتحول بسهولة إلى فيلم سينمائي طويل وممتع فهذا الأرستقراطي ولد في عائلة عريقة غنية تملك عشر مدن ومئة وست عشرة قرية وثلاثين ألف حقل في سنة 1784م كان من الموهوبين في اللغات حيث أتقن مبكرا جداً الألمانية والروسية بالإضافة إلى البولندية والفرنسية كما تعلم بسرعة فائقة التركية والعربية وتعلم فن الخط العربي، ثم تعمقت معرفته بالعربية في النمسا، وأولع بالدراسات الشرقية ليرتبط بعد ذلك مع أحد ألمع المستشرقين الألمان بورغشتال ويؤسس معه ومع كلابروت في 1809م أول مجلة استشراقية أوروبية تلك المجلة التي واصلت الصدور حتى رحيله إلى الشرق في آخر سنة 1817م، بالإضافة إلى ما ذكرنا من روابط ربطته بالشرق فإن للخيل العربية دورها في تطلعه إلى الارتحال إلى الصحراء العربية لدرجة حصوله على أزياء بدوية قبل رحلته بسنوات، فقد كانت عائلته ذات سمعة راسخة في تربية الخيول حيث كانت تملك 60 فرساً وأكثر من 100 مهرة، سنحت فرصة مواتية عرض خلالها جفوسكي شخصياً على قيصر روسيا ألكساندر الأول وعلى الملكة كاترين دو فورتمبرغ مشروع رحلة إلى شبه الجزيرة العربية من أجل تحسين إنتاج الخيول العسكرية في أوروبا فحظي بثقتهما باعتبار أنه من النبلاء ومن طبقة عريقة كما أنه ضابط خيال قديم وصاحب مربط للخيول معروف وفضلاً عن ذلك متخصص بالشرق، فاستغرق الإعداد للرحلة سنتين وضم فريقه 15 شخصاً انطلق الركب من بودولي في نهاية 1817م إلى القسطنطينية ومنها على متن سفينة روسية إلى سورية بعد مرور سنة نجح في الحصول على 13 حصاناً من الفحول و14 فرساً لصالح ملكة فورتمبرغ، وكانت قاعدته الرئيسة في السنة الأولى للرحلة في دمشق ولكن في السنة الثانية من رحلته نقل قاعدته إلى حلب ولكن المال سرعان ما ينفد والمشكلات المالية لا تنتهي طيلة رحلته الطويلة، ولكي يقوم بعمليات شراء الخيل عاش جفوسكي بين بدو الصحراء في مرابعهم ونالوا إعجابه كما نال إعجابهم ولقبوه الأمير وتاج الفخر وعبد النيشان وذكر جفوسكي أنه سلك الطريق من حلب إلى تدمر عبر الصحراء ولم يسبقه في هذا الطريق إلا الرحالة بوركهات أو (الشيخ إبراهيم) كما كان يسمى واستطاع في نهاية رحلته التي استغرقت عامين (18171819م) إخراج 137 رأساً من الخيل من رمال الصحراء إلى جليد روسيا ولم يكتف بالخيل بل جلب بعض الآثار والتحف والمخطوطات أيضاً. عانى جفوسكي في نهاية حياته من الديون ولكنه على الرغم من كل الصعوبات التي واجهها ظل محتفظا بخيوله العربية إلى آخر لحظة من حياته وعندما أعلن العصيان في بولندا 1830م كان جفوسكي في طليعة الخيالة المحاربين للقوات العسكرية الروسية ليقتل في إحدى المواجهات 1831م ! ولحسن الحظ فحين استولت القوات الروسية على مكتبته بعد ذلك كانت مخطوطة رحلاته إلى الشرق عند أحد أصدقائه حيث عثر عليها بعد سنوات طويلة تلك المخطوطة التي كتبها باللغة الفرنسية وزودها برسوم وتخطيطات عديدة، وتحدث فيها عن الخيول العربية بإسهاب ،ووضّح فيها الثقافة البدوية لخيّالة نجد، ورسم صورة المجتمع في شبه الجزيرة العربية، وحكى مغامرات لا تهدأ كثافتها الدرامية، كما أدرج فيها رسائل متبادلة مع الليدي ستانهوب. وقد قامت الدكتورة هناء صبحي بترجمة كتاب جفوسكي (انطباعات عن الشرق وشبه الجزيرة) ونشر مؤخراً عن طريق مشروع كلمة في أبوظبي استناداً إلى المخطوطة المحفوظة في المكتبة الوطنية البولندية وجاء في 26 فصلاً وملحقاً بمحتويات مكتبة جفوسكي مستغرقاً 759 صفحة وقد تناولت تسعة من فصول الكتاب الخيل وسلالاتها وروايات البدو حولها وطرق تربيتها وأرسان خيول نجد وتصنيفها وغير ذلك من شؤون الخيل في حين تطرق في فصول الكتاب الأولى إلى الحديث عن الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية للجزيرة العربية والشام في تلك الفترة التاريخية المضطربة ولذا فلهذه الرحلة أهمية خاصة لتزامنها مع أحداث تاريخية بارزة مثل حملة محمد علي على الدولة السعودية وسقوط الدرعية 1818م وكذلك ثورة حلب 1819 م التي شهدها في المدينة أثناء وجوده فيها وغير ذلك من الأحداث وقد تساءل أحد الباحثين عندما لاحظ قيام جفوسكي بإحصاء 178 فخذاً لإحدى القبائل وإيراد أسماء 47 شيخاً من شيوخها قائلاً لصالح من كان الرحالة البولندي يحصي هذه القبائل؟!
مشاركة :