أتعلم يا رفيق أحجية البازل؟! أنا وأنت كقطعٍ مبعثرة مِنها.. قد نرى فينا، أو قد يبدو لمن يرانا عن كثب في بعثرتنا وقبل التركيب، أننا إذا ما التحمنا سنبدو في كمالٍ وجمالٍ باهٍ.. إلى أن نأخذ قراراً بالالتحام بعد تلك الهالة من الانجذاب، حينها سيغدو البحث في أوجه التشابه والاختلاف ومحاولة الملاءمة فيما بيننا حقيقة وأمراً مسلماً به؛ لنكمل الصورة، ونطلق دفين جمالها. يلي ذلك البحث: الاقتراب، ثم الاقتراب أكثر فأكثر، ثم أكثر.. وأكثر، إلى أن يصبح الذي بيني وبينك لا شيء من مسافة سوى تلك التي على أرضها نعلن "لحظة التداخل والانضغاط"؛ ليكتمل التلاحم فيما بيننا ويثبت، ويشتد بناء واحداً. أي محاولة أعزم نحوها لتلافي ذلك الاحتدام، موجهةً ومبديةً لك سطحاً آخر -زائفاً- مني، ربما هو "أوسع" ليلائم نتوءك حين التداخل، سيفلح بالفعل في تلافي وطأته، وربما سيبهرك فيّ تلك المرونة الزائفة! ولكن انظر.. أي ثبات واستقرار جنيناه الآن؟! هل نغدو الآن في أجمل صورنا، وما فيك يكملني وما فيّ يكملك؟! هل عدم احتدامنا دليل على صحة علاقتنا؟! أم أن حرارة التداخل التي كانت ستنتج من ذلك الاحتدام كانت ستصبح كفيلة بأن تصهر الحاجز بيننا، فتذيبنا قلباً واحداً؟! كانت ستصبح دليلاً على قربنا أكثر وتلاحمنا، لا على اختلافنا وعدم ملاءمتنا لبعضنا الآخر. بالطبع أعلم جيداً أن هناك نوعاً آخر من الصدمات والاحتكاكات بين قطع البازل، ذلك الذي يُنذر بأن نتوءكما غير متلائم، ولِتبحثوا عن قطع أخرى ملائمة لتكملكما.. كل على حدة! عدم تلائم نتوءاتنا لا يعني بالضرورة أن أحدنا سيئ النتوء والطباع، وحتى النتوء المعارض لإتمام الصورة، هو تماماً ما يبحث عنه آخر! نتوئي ونتوءك كلاهما فضيلة.. واجتماع الفضائل لا يستوجب بالضرورة ملائمة كل منها للآخر، ولا ينفيه، فكان حقاً علينا أن نبدو كما نبدو في البداية. ولكن يا رفيق.. أتعلم الفارق فيما لو لم يُؤخذ بالنُذُر؟! ذلك أن "الإقحام" بالإجبار لن ينتج حرارة التحام تصهر الحاجز بين اثنين، وإنما سينتج ناراً تحرق قلبين وقهراً لاثنين؛ لكي يلتحما قسراً تحت أي مسمى، وتحت أي ضغط من المجتمعات وثقافاتها! كانوا سيقضون عمراً في تشوه وانكسار لأجل أعراف مجتمعية لا تزن شيئاً، وهم أنفسهم من كانوا سيزهرون في أي إطار آخر لو أنهم رفضوا استعمار الفكرة، لكنهم استسلموا لمن أقحمهم عنوة، رغم أنهم مُلّاك الأمر! ولكن يا رفيقي.. التحامنا هنا هو وليد احتدامنا "الصحي" سابقاً، جَنَيْنا استقراراً وثباتاً لم يكن مخلوقاً من قبل، جنيناه ولم يخطر ببالنا يوماً أن نستطيع عليه صبراً، بالطبع هذا الوضع هو غاية المريد. ربما نتفق جمعاً على ذلك الآن، ولكننا أحياناً نخشى لحظات التألم والشقاء، وإن كان المقابل عمراً من النعيم. نخشى أننا أسأنا اختيار القطعة، فنستسلم لظنوننا سريعاً، ونتخاذل في الأصل عن تجربة تلك القطعة أو محاولة ملاءمتها معنا، فنخسر أي فرصة قد تؤدي بنا لبناء تلك الصورة الرائعة، ظناً منا أن صورنا الحالمة تُخلق جملةً لا تُصنع تفصيلاً. جليّة تلك القاعدة القائلة بأنه كلما نشدت التحاماً أكثر واجهت احتداماً أكبر، كيف لا وأنت الآن تلائم قطعتك التالية -في ذات الصورة- من أكثر من وجه؟! ذلك لتراكب وتماشي جميع ما ثبّت من قطعك الأساسية مسبقاً.. ومنطقي جداً أن تذهب لتغيير القطعة المختارة التالية إن كانت لا تلائم السابق، ويستحيل على العقل أن يقبل فكرة أنك ستحلحل وتخلخل جميع القطع السابقة في الصورة فقط لأنها لا تلائم تلك القطعة التالية. وإنما ظني يقول إنك ستبحث لها عن بديل يلائم الكل. بعد فترة من التركيب والإرساء، ستجد أن اختيار القطع التالية المكمّلة لصورتك أصبح أسهل من ذي قبل؛ بل وزاد حماسك لتوقع القطعة التالية وزاد شغفك لإنهاء الصورة، إلى أن تنتهي ومعك تحفة فنية فيها من الجهد والإخلاص شاهداً على عظيم صنعك لما يستحق، فيها من الثبات ما يشمخ صامداً لو هززت الطاولة، وتلك اللمعة البارقة في عينيك، انتصاراً على ذاتك لذاتك، واستنزالاً من ذاتك لذاتك، وهي ذاتك، وذاتها تلك التي ذابت اندماجاً في ذاتك، وأنا ذاتي قد مت تيهاً مما سبق! خلَقتم سوياً من العدم كياناً وصرحاً ما كان ليكون يوماً لولا مثابرتكما وإيمانكما بالنهايات، ما كان ليكون لو أنكما استسلمتما لضعف البدايات. يا رفيق.. نحن من نختار، نحن من نرى بصيص الأمل في عتمة العكوسات، أو نسمع النذير وإن تعالى الصفير والتصفيق، نحن من نبني سُلّماً من حطام الحياة، أو نرى الهشيم في السُلَّم المُتسنَّم، نحن من نبني نُظُماً من ركامٍ ما كان ليؤمن بأهليته غيرنا، ونحن من نبني أصنامنا أو نكسرها. أتعلم.. نحن نستحق على السواء، تمسكنا أو استسلمنا! ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :