تجدهم في كل مكان. على كورنيش النيل في وضح النهار. يأتون بالمئات ويتجمهرون هنا وهناك. بعضهم يفضّل الثنائيات حيث يختلي بهذه أو تلك. لكن الغالبية تفضل العمل الجماعي، حيث يقفز أحدها بملابسه الداخلية في مياه النيل مستعرضاً قدراته البهلوانية، أو ينغمس آخر في موجة رقص هستيرية على أنغام الموسيقى الشعبية الصاخبة الصادرة عن «مقهى» مجاور أقامه قرين لهم على مرمى حقائبهم المدرسية الملقاة على الأرض. آخرون يفضّلون العمل الجاد والنضال الشاق. تلتقي الجموع وتتقابل المجموعات على أبوابها الشاهقة وساعتها الصابرة حيث جامعة القاهرة «المبتلية» بتظاهرات الصبية والشباب «السلمية» بنكهة المولوتوف وطعم الخرطوش وألوان الحريق والحجارة. ملامحهم تكسوها طبيعة المهمة التي يُقبلون عليها طبقاً للأوامر ووفق التعليمات. يعلمون على الأرجح أنهم مجرد «كومبارس» يؤدّون مشهداً في فيلم لا ناقة لهم فيه ولا مدرسة. أما المدرسة، فلا حول لها أو قوة. منها ما تحاول جاهدة الاستمرار في «العملية التعليمية» ولو شكلاً، ومنها ما اعتبرت نفسها جزءاً في منظومة فاشلة فسارت نحو مزيد من الفشل فلا ضبط أو ربط، ولا تعليم أو يحزنون، ومنها ما تجري غسل أدمغة روادها من الصغار في محاولة للمحافظة على هذه الجماعة أو تلك الأفكار. وتبدو الأفكار والمنظومات رفاهية عاكسة انفصالية شبه تامة مع ما يحصل على أرض الواقع، حيث «ورش الميكانيكا» وشركات النظافة وأرصفة التسوّل. فربع سكان مصر يشكل أولئك الصيية والصبايا المتراصين على كورنيش نهر النيل، وفي تظاهرات «إخوان» جامعتي القاهرة والأزهر، وفي ورش العمل وكنس الشوارع والتسول في أوقات الفراغ، وتشكيلة ثرية من الأنشطة المختلفة التي تتراوح بين الخطرة والقاتلة لهم ولمن حولهم. حول وضع الطفولة في مصر وشأن الصغار في «المحروسة»، تصول أحاديث وتجول مناقشات وتعدّ دراسات تدور في دوائر مغلقة حول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من «أحباب الله»، الذين يقدّر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عددهم بأكثر من 30 مليون طفل وطفلة دون الـ18 سنة، أي أنهم يشكّلون حوالى ربع سكان مصر، نضحت طاقاتهم وتفجّرت قدراتهم بأخطار كثيرة أضافت هموماً إلى هموم البلاد السياسية. وتصدّرت أفعالهم وتبوأت أنشطتهم عناوين الأخبار واهتمامات الأمن بعد أن تحوّل بعضهم من قاعات الدرس (غير المعتنى بها) وملاعب الرياضة (غير الموجودة أصلاً) إلى عرض الشوارع وحلبات العنف والإرهاب. دوائر مفرغة من مآزق وكوارث ومشكلات آخذة في التفجّر نتيجة عقود من التغييب والتجهيل لأعداد متزايدة من الصغار الذين ولدوا في ظل حضور «شرفي» للدولة التي تخلّت عن جانب كبير من مسؤولياتها إلى الدولة الموازية، حيث فتحت الجماعات المتطرفة مدارس ومعاهد تلقّن فيها الصغار معتقداتها وأفكارها، ومستشفيات وجمعيات أهلية تتبرع فيها بالعلاج والمساعدات في مقابل ضمان ولاءات عائلات وأبنائها. وإضافة إلى الدولة الحاضرة حضوراً رمزياً، وتلك العاملة على الهامش، تُرِك ملايين من الصغار يتدبرون أمرهم وفق ما يتراءى لهم. فتفجّرت كارثة أطفال الشوارع، وتفاقمت أزمة عمالة الأطفال، وبزغت مشكلة التلاميذ الملتحقين بالمدارس والحاصلين على شهادات، على رغم أن المحصّلة النهائية من مسارهم العلمي صفر. ومن صفر التعليم المدرسي إلى صفر التربية والتنشئة إلى صفر الرعاية والاهتمام، أصفار متواترة هي حصيلة سنوات متتالية تتفاقم آثارها وتتضاعف مغباتها في ظل أعوام ما بعد ثورة يناير حيث فترات الالتباس وشهور الفوضى. وعلى رغم أنها نقطة في بحر، إلا أنها بداية مبشّرة. رئيس مصر الموقت المستشار عدلي منصور يرعى لجاناً لحماية الطفل المصري تأسست على عجل لـ «لمواجهة تفاقم حالات الانتهاكات والعنف والاستغلال والإهمال التي يتعرّض لها الطفل المصري» كما تؤكد الأمين العام للمجلس القومي للطفولة والأمومة الدكتورة عزة العشماوي. وقد بدأت هذه اللجان عملها في محافظات سوهاج والجيزة والإسماعيلية والقاهرة. وتوضح العشماوي أن هذه اللجان تتعاون مع الإدارة العامة لنجدة الطفل، وقد خصص خط ساخن لهذه الغاية هو خط نجدة الطفل (16000). كما لحظ قانون الطفل المعدّل بالرقم 126 (عام 2008) آلية مجتمعية للوقاية والتدخّل لحماية المعرضين للخطر، في محاولة لتحقيق المنهج الحقوقي للطفل في مصر. كما أن اللجان تُعد بمثابة تفعيل لدستور 2014 وقانون الطفل. وتتبلور في هذه اللجان حصيلة أعمال المجلس القومي للطفولة والأمومة وخبراته، وتتصدّى لمشاكل عمالة الأطفال وأطفال الشوارع والتسرب من التعليم وتمكين الأسر الفقيرة وتبعاتها للارتقاء بأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن مناهضة أشكال العنف والاستغلال والإساءة والتهميش التي يتعرّض لها الطفل داخل المدرسة أو الأسرة أو الشارع، إضافة إلى مؤسسات الرعاية الاجتماعية. كما ستعمل هذه اللجان على مواجهة الهجرة غير الشرعية التي يشكّل الأطفال مكوناً رئيسياً لها. وحيث إن الأطفال يشكلون مكوناً رئيسياً لمصر والمصريين، لم تعد الحاجة ماسة للتعامل مع مشاكلهم في غياب الرعاية، أو الاهتمام الواجبين، بل باتت الحاجة مسألة حياة أو موت للمجتمع برمته. مصرأطفال مصريون
مشاركة :