قرن على الثورة الروسية الأولى في شباط (فبراير) 1917

  • 2/15/2017
  • 00:00
  • 27
  • 0
  • 0
news-picture

انتهى يوري مارتوف، أحد قادة الجناح الأقلي (منشفيك) في الحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي، غداة هزيمة جناحه أمام لينين والجناح الأكثري (بلشفيك)، في منفاه الى ان البلشفية المنتصرة هي المرآة السياسية لثقافة الحرب والعنف التي رفع لواءها في 1917 «الفلاحون الجنود»، وثاروا تحته. فالبروليتاريا الروسية تراجعت، وفقدت تماسكها، حين اجتاحت موجة أصحاب «المعاطف الرمادية» (لباس الجيوش الروسية) العائدين من الجبهات أو الهاربين منها، مدن روسيا المتمردة والثائرة. وعلى شاكلة القائد المنشفي، رأى عدد من جنرالات الجيش الأبيض (نصير القيصر ونظامه في الحرب الأهلية) أن «بلشفة» الجيش والقوات المسلحة هي السبب في انتصار الديكتاتورية الشيوعية. فالجيش هو ركن النظام الاجتماعي واستقلال روسيا، وانهياره، في آذار (مارس) 1917، جرّ الى انهيار النظام برمته. وتناولت، دراسات لاحقة، أبرزها كتابات مارك فيرّو وألَن فيلدمان وميكاييل فرينكين، الجيش الروسي ودوره في انهيار النظام القيصري وانتصار الحزب البلشفي. وخلصت الى ان انهيار الجيش تأخر الى أيلول (سبتمبر) 1917، غداة «انقلاب» الجنرال القيصري كورنيلوف، وإخفاقه الذريع. وعلى هذا، ليست حركات «الفلاحين – الجنود» التفسير الوحيد والجامع لانتصار البلاشفة. وهذه الحركات، من جهة أخرى، عملية طويلة ومستقلة بديناميتها ومراحلها وحوادثها ومطاليبها، ولا يجوز دمجها في عمل أو برنامج حزب من الأحزاب. فبين آب (أغسطس) 1914 وكانون الثاني (يناير) 1917 طاولت التعبئة العسكرية الروسية 14 مليون رجل، 85 في المئة منهم فلاحون (ريفيون). وعشية ثورة شباط (فبراير)، بلغ عديد المقاتلين 7 ملايين، وعديد الاحتياط والحاميات 2.5 مليون رجل تقريباً. وفي أوائل 1917، أحصي 1.8 مليون قتيل. وبلغ عدد الأسرى والجرحى 3.2 مليون رجل. وهذه الأرقام قرينة على ضخامة المجهود الحربي، وعلى عِظَم مساهمة الفلاحين فيه. وشنت دول المحور، وراء ألمانيا، في (نيسان - أبريل - أيلول) 1915 هجوماً كبيراً أجبر القوات الروسية على الجلاء عن غاليسيا وبولندا وليتوانيا وكورلاندا وشطر من بيلاروسيا (روسيا البيضاء). وحمل هذا المنعطف معظم الجنود الروس على خسارة ثقتهم في قيادة القيصر وبطانته، الحرب الى النصر. وكان الفلاحون التحقوا بوحداتهم من غير حماسة وطنية. فالعدو الألماني بعيد، ولسان حالهم يردد: «نحن في طنبوف، والألمان يضلون الطريق إلينا». وأما «الشقيق الصربي الصغير» الذي أعلن القيصر الحرب في سبيل نجدته، فمعظم أهالي الأرياف لم يبلغهم خبره ولا سمعوا به. وعلى رغم هذا انجزت التعبئة العامة من غير عراقيل، وصمد الجنود وصدوا الهجمات الأولى الدامية على جبهة بروسيا الشرقية. والهوة التي تفصل بين الضباط وبين «الجنود – الفلاحين» كانت في الجيش الروسي أعمق منها في الجيوش الأخرى. فالضباط يتحدرون من النخب التقليدية، ومن الأشراف ملاكي الأرض على الخصوص. واعتادوا معاملة الأنفار أو جنود الصف على شاكلة العبيد. فقواعد الانضباط شديدة القساوة، وواجبات الجنود كثيرة ومهينة، والعقوبات البدنية سارية ومؤذية، ولا تنفك تذكّر الجندي بوضاعة مرتبته. ويرى الجنود في ضباطهم ممثلي «الفيرخي» (لطبقات «اللي فوق»). فهم يقهرونهم بقواعد انضباط مهينة، ولا يترددون عن إسالة دمائهم، والتضحية بهم، والسعي في استئصال شأفة «الموجيك» (الأقيان) وردهم عن مهاجمة دور الملاكين وحرقها وقتل أهلها. والرسائل التي كان يكتبها الفلاحون الى اهاليهم، على ما لاحظت دائرة الرقابة العسكرية يومها، تدل على غلبة الشعور بـ «الإرهاق» في أوساط الجنود، وسريان الإشاعات عن «خيانات البلاط، امرأة القيصر راسبوتين ومعظم الوزراء». وعلى رغم هذه التقارير، بقيت أعمال الهرب والتمرد على الانضباط – على أوامر التصدي والهجوم - استثنائية، وذلك الى اوائل 1917. وأكثر الوحدات اضطراباً هي حاميات الثكن، وعلى الخصوص حاميات العاصمة بتروغراد، القريبة من الجهة الخلفية وعثراتها ومن الحملات الدعائية المنتشرة في الشارع والعقول، واضطلعت القوات المرابطة في بتروغراد بدور حاسم في أيام شباط الثورية. فبينما انحسرت تظاهرات العمال، وأصابها الوهن، مكن التمرد العسكري، في ليلة 26 شباط الى 27، الثورة من الانتصار، وامتنع جنود الأفواج الذين أمروا بإطلاق النار على المتظاهرين من تنفيذ الأوامر. فحصل الجنود في الحال على حصة غالبة من التمثيل في سوفيات (لجنة) النواب العمال والجنود ببتروغراد. وأقروا، في الأول من آذار البيان رقم واحد، ونص على: إلغاء العقوبات العسكرية المهينة، ومساواة حقوق الجنود السياسية والمدنية والخاصة خارج الخدمة بحقوق مواطني روسيا الحرة والديموقراطية الآخرين. وأقرّ البيان انتخاب السرايا والأفواج والألوية «لجان الجنود». وحال انتخابها، تولّت هذه اللجان وصل المناقشات السياسية، طوال عام 1917، وبين الجبهات والخطوط الخلفية، وفي أوساط المقاتلين والسياسيين. وقام هؤلاء «الناشطون» من صنف جديد بإبلاع سوفيات بتروغراد، وهو حظي بالإجماع على الاعتراف به هيئة الثورة العليا والمشروعة، آلاف التوصيات والعرائض التي أودعها الجنود شكاويهم وأمانيهم. وصرحوا فيها بفرحهم «التخفف من طغاة بيت رومانوف»، وطلبهم «جمعية تأسيسية منتخبة بالاقتراع العام»، وانتظارهم «جمهورية ديموقراطية»، ويقينهم بأن انتصار الثورة هو البرهان على طلوع مجتمع أكثر عدالة من المجتمع القائم وللفلاح فيه الحق في الأرض المستحقة. وطالب الجنود بتحسينات متفرقة مثل زيادة الراتب وتعويضات عوائد الجنود الذين خسروا القدرة على العمل. وأصروا في عرائضهم على إلغاء الإجراءات المتعسفة والمعاملة السيئة، وإقرار إجراءات ليبرالية وديموقراطية في المؤسسة العسكرية. وفي شأن مسألة الحرب والسلم الحاسمة، جهر الجنود إرهاقهم الشديد من المعارك ورغبتهم في «سلم عادل» في مستطاع سوفيات بتروغراد وحده المفاوضة على إقراره. وتمنيهم نهاية الحرب لم يحملهم على توقّع عودة وشيكة الى ديارهم وأسرهم، ولم يدعهم الى تبني الخطابة السلمية في «الحرب الإمبريالية» التي رفع الحزب البلشفي لواءها، وأشاعها في بعض الأوساط العمالية. فمطلب السلم حالاً وبأي ثمن، رأى الجنود فيه مطلب المتخلفين عن القتال، والآمنين في بيوتهم ودورهم في الخطوط الخلفية، و»المشتكين من العمل 8 ساعات في اليوم، بينما يصل الجندي في خندقه الليل بالنهار». واتهموا أصحابه بإهانة ملايين المقاتلين الذين قتلوا في ساحات الشرف والتنكر لتضحياتهم. ومسألة الحرب لم تلبث ان تصدرت المناقشة السياسية. فرأت الحكومة الموقتة ان النصر وحده كفيل بإرساء النظام الجديد في معسكر الديموقراطيات الغربية، وجمع المجتمع الروسي على لحمة متينة، وتجنب الفوضى. وتولى وزير الخارجية الجديد، بافيل ميليوكوف، منذ 4 آذار 1917، تجديد التزام روسيا الجديدة العهود الدولية التي تعهدها النظام السابق، وخوض الحرب جنباً الى جنب الحلفاء حتى إحراز النصر. ودعا سوفيات بتروغراد في «نداء الى شعوب العالم كلها (14/3/1917) الى «سلم من غير ضم ولا تعويضات»، في انتظار «توقف المذبحة الرهيبة التي تلف بظلامها أنوار الحرية الروسية المجيدة» واستقبلت لجان الجنود وعامة المقاتلين هذه الشعارات بحماسة فائقة. وأسبغت الشعارات على مسألة السلم مشروعية افتقر اليها دعاة الحرب حالاً وبأي شرط من «كسالى» الخطوط الخلفية. وأيّدت مؤتمرات مندوبي الجنود الأولى في مينسك (من 7 الى 17 نيسان) وبسكوف (من 22 الى 25 منه) شعار «السلم الأبيض هذا». ودلت التجمعات العريضة على فقد القيادة دالتها على المقاتلين، وانهيار علاقتها بهم. وفي المقابل، لم يرضخ الضباط لمعايير الانضباط الجديدة، ورفضوا الاجتماع الى ممثلي اللجان. وأدى هذا الى إدراك الجنود الرابطة بين مسألة الانضباط العسكري وبين انتزاعهم حقوق المواطنة. فتردت حال الانضباط، وتواتر رفض الجنود الانقياد لأوامر ضباط ليسوا موضع ثقة. ولكن نسبة رافضي الخدمة والهاربين بقيت متدنية (نحو 3 في المئة من المقاتلين)، على خلاف الأمر في الحاميات الخلفية: في غضون 3 أشهر «تبخر» مئات الآلاف من الجنود في اعقاب أشاعات عن وشك توزيع الأراضي على الفلاحين. وسعت الحكومة في تطويق هذه الحركة، فمنحت الجنود البالغين فوق الأربعين سنة إجازة مدتها 6 اسابيع يقومون في اثنائها بأعمال الزراعة. ومعظم هؤلاء لم يرجع الى وحدته. وفي أواخر أيار (مايو) 1917، قررت الحكومة الموقتة استئناف العمليات الهجومية، حرصاً منها على ثقة قيادة الحلفاء العليا، وتمهيداً للهجوم الكبير الذي تعدّله القيادة وتعول على حسمه الحرب. وتولى ألكسندر كيرينسكي، وزير الحرب الجديد، الإشراف على تنظيم الجيش. فجال على الجبهات، وحاول إقناع جماهير الجنود الغفيرة بضرورة إحراز نصر على الألمان أولاً وقبل الإعداد لتوقف القتال. وخططت قيادة الأركان الروسية للهجوم على أن يبدأ في 18 حزيران (يونيو) 1917. وأحرزت العمليات الأولى بعض النجاح، ولكن افتقار القوات الى العتاد العسكري عرقلها، ولم يلبث أن أوقفها. وفي 7 تموز (يوليو) شن الألمان هجوماً مضاداً، وفي اثناء اسابيع قليلة أجبروا القوات الروسية على التقهقر 300 كلم الى 400. وحمَّل الجنود القيادة المسؤولية عن الفشل وعن «إبادة الموجيك» وخنق الثورة. وبدا تكليف الجنرال كورنيلوف، غداة يومي 3 و 4 تموز الثوريين، تنظيم الجيش دليلاً على صدق مخاوف الجنود. فالقائد الأعلى الجديد أعاد العمل بعقوبة الإعدام على الجبهات، وحظر المهرجانات على العسكريين، وأمر بمطاردة الهاربين وإحالتهم على محاكم عرفية وميدانية، وقيّد صلاحيات لجان الجنود، ومنع «الدعاية البلشفية». فما كان من «الثورة المضادة العسكرية» إلا تأجيج التطرف في صفوف الجنود، والنفخ في ما سماه الجنرال بروسيلوف «بلشفية الخنادق»، أي الرغبة الحادة في العودة الى الديار، واقتسام الأرض والاستقلال بها، وقتل الملاكين، وهي أقانيم الحركات الفلاحية الثلاثة: السلم والأرض والحرية (مير، زمليا، فوليا). وليس بين «بلشفية الخنادق» وبين البلشفية «الرسمية» قاسم مشترك، على نحو ما لاحظ بروسيلوف كذلك. وفاقمت محاولة كورنيلوف الانقلاب، في أواخر آب (اغسطس)، الفوضى التي عمّت القوات، وأثبتت أن الانتصار على الألمان ليس شاغل القيادة العسكرية، فشاغلها هو الانتصار على الجنود - الفلاحين وقتلهم. فقام الجنود على الضباط، وقتلوا مئات منهم في اعقاب 3 سنوات من الهزائم والتضحيات والآمال الخائبة وانتظار «الخلاص الكبير». واستعادت لجان الجنود، بعد الثورة المضادة، نفوذها. فأصرّت على إقالة «الوزراء البورجوازيين»، وحل الدوما (مجلس النواب)، وعلى توكيل السوفيات بالسلطات كلها، وإقرار «المراقبة العمالية» على المصانع، وإلزام البورجوازيين بالعمل... وجدّدت المطالبة بمواد البرنامج الفلاحي: الأرض لمن يفلحها، إلغاء الملكية الخاصة... وعمّ الجبهات والحاميات رفض الأوامر وإطاعتها. وتصدع الجيش على وجهيه: وجه القوة الدفاعية ووجه القوة القمعية. وبلغت أعداد الهاربين من الخدمة الى بيوتهم وأرضهم في (أيلول- وتشرين الأول - أكتوبر) 1917، مئات الآلاف. وفي طريقهم الى بلادهم، نهبوا ما وسعهم نهبه، وأحرقوا دور ملاكين، وقتلوا حرقاً وسحلاً من تطاولت إليهم أيديهم، واغتصبوا بعض النساء. وانهارت الحدود بين المناطق العسكرية والمناطق المدنية. فأجّج انهيار الجيش، وهرب الجنود، الاضطرابات الفلاحية والريفية. وكانت هذه نادرة قبل أواخر صيف 1917. وانتشرت في «الأراضي السود»: حوض الفولغا وشطر من أوكرانيا. وبعض العصابات المختلطة هاجم أحياء يهودية في مدن بيلاروسية مثل بوبرويسك ونيسفي وسمولنسك وغوميل، حيث قتلت عصابة من 10 آلاف جندي وفلاح مئات من الأهالي. فكتب مكسيم غوركي: «اجتاحت بربرية الفلاحين في المعاطف الرمادية المدن...». فلما استولى البلاشفة (حزب لينين الشيوعي) على السلطة في 25 تشرين الأول 1917 سنوا قانونين: أقرّ الأول الانسحاب من الحرب، والثاني توزيع الأرض. والتهمت مشكلات التوزيع الحركة الاجتماعية. والقيادات الفلاحية التهمتها الدولة الجديدة وإدارتها والحرب الأهلية المتربصة على الأواب.     * مدير بحوث في معهد تاريخ الحاضر (المركز الوطني للبحوث العلمية)، عن «ليستوار» الفرنسية، 2/2017، إعداد منال نحاس.

مشاركة :