الحلقة الأولى من مئوية الثورة الروسية فبراير 1917

  • 12/30/2017
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

يعقوب يوسف الإبراهيم | هناك سياقات متعددة لكتابة التاريخ تظهر التطور المعرفي والارتقاء الترشيدي تجدها محكمة مرصوصة بأحداث قطعية من قرائن ودعائم. وعلى النقيض من ذلك ترى مسارات مخالفة أصابها الجمود وغلب عليها التقليد والتكرار، لم تستفد من فيض ما يطرح من إسهامات، بل ظلت تموج بأشكال لا تعطي مضموناً صحيحاً. لكنها جعلت منها حقيقية واقعة لا تحتاج إلى مزيد، وكأنها بذلك تدعو إلى إغلاق باب الاجتهاد إذا صح القول. وقد تجلى ذلك واضحاً وضمن هذا المسلم في ما يكتب حالياً عن مئوية الثورة الروسية عام 1917. ولا أقول هنا مردداً ثورة أكتوبر لأن ذلك العام قد حمل ثورتين وصفنا الثانية مجازاً بالثورة لكنها في الحقيقة كانت انقلاباً، كما سوف نفصِّله في سياقنا للموضوع. أما الأولى فهي الثورة الحقيقية التي كانت نتيجتها تنازل القيصر عن العرش ونهاية النظام الملكي وحكم سلالة رومانوف التي سادت 310 أعوام فكانت في فبراير عام 1917. كما أن الشهرين المارين (فبراير وأكتوبر) هما حسب التقويم الجولياني القديم الذي كان قائماً وقت ذاك في روسيا فقط، يقابلهما حسب التقويم الجريجوري المستخدم حاليا شهرا (مارس ونوفمبر)، وهو فخ يقع فيه من كتب عن الموضوع بالعربية. فتفسير النص مرهون بتاريخه، ولا يمكن الفصل في هذا المنحى إطلاقاً من دون التقيد بالمراحل الزمنية للترتيب التقويمي، وشرحها ما أمكن حتى ينضبط التسلسل التاريخي الدقيق للأحداث ضمن نسق موحد، وهو أمر لا يمكن تجاهله أو إغفاله. وقد يتقمص بعض الصحافيين شخصية المؤرخ ويعتقد بأنه قادر على تحويل ما يكتبه عن عالمه وعلمه بحكم معايشته للأحداث المعاصرة إلى ما يلائم فهمه وعقيدته واتجاهه لترغيب قرأه فيلج في عالم المتخيل الذي يأخذه إلى ترحال سرمدي نحو الأقاصي واختراق المجاهيل تدفعه إلى مهاوٍ سحيقة لا يمكن الخروج منها بوسائل تعبيرية تعتمد على توهج نصي لا علاقة له بالموروث المسند بالوثائق والأسانيد المعتمدة لا بالتصور الكتابي وحكايا الذاكرة الفردية. «ومنها استعانة رئيس وزراء الحكومة المؤقتة كيرنسكي عند فراره بعربة يجرها حصان، بينما الحقيقة تقول إنها كانت سيارة من طراز رينو تابعة للسفارة الأميركية، ترافقها سيارة اخرى قدمها السفير الأميركي ديفيد فرانيس. أو هجوم مجموعة مسلحة من البحارة على جلسة مفتوحة للبرلمان، والوقائع أثبتت أن الهجوم كان على اجتماع مجلس وزراء الحكومة المؤقتة في القصر الشتوي فجر يوم 27 أكتوبر / 8 نوفمبر، ولم يكن هنا برلمان (دوما) بل مجلس (سوفيت). كما صور لينين القائد الميداني في تلك اللحظات الحاسمة، بينما كان لينين هارباً، متنكراً، حالقاً لحيته وشواربه، مختبئاً في فنلندا منذ ثلاثة أشهر، ولم يأت بالذكر لتروسكي إطلاقاً، مع العلم انه كان القائد والمنفذ الذي سيطر على مجلس (سوفيت) ومن ثم العاصمة بيترزسبرغ بأجمعها، وارسل مجموعة من المسلحين المؤيدين للبلاشفة، وأعلن الثورة قبل رجوع لينين من مكمنه. الغريب أن الكاتب ذكر «عشرة أيام هزت العالم»، وهو كتاب للصحافي الأميركي جون ريد، الذي ذكر معظم ما أوردناه أعلاه». فلم يصب الكاتب هدفه، بل كتب بدون تأكد أو توكؤ، فوضع الأشياء في غير موضعها. فلقد استوقفني بناء على ما مر تحقيق ظهر في النصف الأول من شهر اكتوبر المنصرم بإحدى كبريات الصحف العربية بعنوان «اكتوبر الأحمر في مئويته». فوجدت فيه ما بين قلق وانتقال ما يمكن أن يطلق عليه بالخيال الصحافي أكثر مما يكون تسجيلاً تاريخياً لحقبة مفصلية بارزة. بدا بما ذكره: «تحل خلال الشهر الحالي ذكرى مرور مئة عام على ثورة 1917 الثورة التي ادت في اكتوبر 1917 إلى سيطرة الحزب البلشفي على الحكم في روسيا». لنبدأ بالتواريخ وتقاويمها: يظهر مما سلف بأنه غاب عن معرفة الكاتب أن الشهر الذي ذكره «اكتوبر» هو الشهر الذي يقع ضمن التقويم الجولياني القديم والذي كانت روسيا القيصرية تعتمده آنذاك. هو ليس اكتوبر الذي يتكلم عنه الكاتب بقوله «تحل خلال الشهر الحالي» فشهر اكتوبر هنا جاء بالتقويم الجريجوري أما ما حدث في روسيا فهو كما ذكرنا بالتقويم الجولياني ويعني أن الكاتب احتفل بالمناسبة قبل حلولها باثني عشر يوما فثورة 26/27 اكتوبر يعادلها 6/7 نوفمبر. وللفائدة دعنا نشرح ذلك: «التقويم الجولياني (المعتمد سابقاً في روسيا) هو نسبة إلى القيصر الروماني جوليوس الذي أُعتمد منذ 96 قبل الميلاد مبني على أساس أن أيام السنة تبلغ 365 يوماً وست ساعات (التقويم القديم)، أما التقويم الحديث فإن واضعه هوالبابا جريجوري الثالث عشر (1505 ــ 1585م) وأيامه تبلغ 365 يوماً فقط، وبدأ استخدامه عام 1582». وبما أن المذهب الكاثوليكي المسيحي في روما قد انشطر عنه المذهب الارثوذوكسي ابان تولي قسطنطنين منتقلا إلى مدينة بناها حملت اسمه، عام 330م وانتشر المذهب في شرق أوروبا (روسيا ودول البلقان والقوقاز واليونان وأرمينيا) فأبقت التقويم القديم (الجولياني). في 2 سبتمبر 1752 تحولت بريطانيا ومستعمراتها في اميركا إلى التقويم. الجريجوري فأصبح تاريخ ذاك اليوم 14 سبتمبر بفارق 12 يوماً بعد التقويم القديم وانتشر في العالم ما عدا روسيا وبعض الدويلات الواقعة تحت نفوذها الذي بقيت تستخدمه واستمر حتى ابدله لينين في 31 يناير 1918، وما قبله بقي على الحساب القديم لذا وجب الاتفاق إلى ذلك وتعديله للدقة. ثورة أعقبها انقلاب لقد غاب عن التحقيق أساسه فأغفلت الثورة الأهم وهي فبراير / مارس 1917 التي انهت حكم قياصرة أسرة الرومانوف بعد أكثر من ثلاثمئة عام من تسلطهم منذ عام 1613م والتي غدت ما رداً ضخماً مربوطاً بتقاليد بالية مرت عليها مئات السنين ساكنة جامدة، تلك الأمبراطورية التي بلغت رقعتها ثمانية ملايين وخمسمئة ألف ميل مربع تغطي 1/6 مساحة الكرة الأرضية، يعيش فيها قبل عام 1917 مئة وعشرون مليون نسمة (أكثر من سكان كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا مجتمعة آنذاك)، يحميها جيش قوامه مليون ونصف المليون جندي في حالة السلم، يحكمها قياصرة يعيشون بمستوى من الترف لا شبيه له في أيامه، فبمجرد أن ترى أميرات السلالة الحاكمة اللواتي لا يستطعن المشي لما يحملن من أثقال الحلي والتيجان الماسية أثناء الحفلات الأسطورية البا ذخة على مدار العام، يحفهم فيها طبقة من الاقطاعيين والرأسماليين المتنفذين في مشاهد لا مثيل لها من حيث الفخامة والبذخ ببلاطات الممالك الأوروبية الأخرى، وفي الوقت نفسه وإزائه تجدها بلاد متأخرة يعيش فيها فقراء الفلاحين البائسين المتناثرين في أصقاعها الخالية المترامية الأطراف، حيث تمثل أقل نسبة للكثافة السكانية في أوروبا المكتظة وأكثر فقراً وبؤساً من فلاحيها. لم تكن تلك الأمبراطورية أمة واحدة بالمعنى المفهوم للبعض، بل خليط غير مشابه أو متجانس يتكون من ثمانين قومية تؤمن بأديان ومذاهب مختلفة تبدأ من بولنديين شمال أوروبا حتى الأزبك ومغول أقاصي آسيا. لا تربطهم رابطة ما خلا الكره وعدم الولاء، فهو قليل نحو حكامهم. مؤسساتها قديمة بالية ووسائل اتصالاتها باعثه للأسى، إداراتها الحكومية لا تستطيع أن تقف على أرجلها من ثقل المسؤولية ، وإضافة إلى كل ذلك النكد والحرمان أثقال تكاليف حروبها الخارجية التي جعلتها في أفلاس دائم وفساد مستوطن يئن تحت ثقل ضرائ&##x200d;بها فقراء وفلاحين معدمين نسبتهم 5/6 من مجموع السكان العام. قوة منغلقة أمام تلك المشاهد التعيسة تجد المثقفون الروس من البيروقراطيين القيصريين إلى الارستقراطيين وطبقة كبار الموظفين والعسكر الذين حتماً يعرفون كل ذلك ولكنهم مكابرون يكرهون ما يسمعونه من جيرانهم بأوروبا بانهم (الروس) أي: من مواطني البلدان المتأخرة، آسيوية المستوى ذلك الوصف الذي يضم كل عناصر العنف والفساد والرشوة والبربرية، بينما يتوهم ويعتقد بعض التقدميين والمفكرين الأحرار الذين يتطلعون لروسيا أن تكون أقرب إلى الغرب وأكثر تحضراً. خلافاً للذين يطلقون على أنفسهم (محبي السلافية) من القوميين من يرى بأن روسيا بلاد مختلفة لها خاصية لا يعرفها المثقفون الأوروبيون، وأن على روسيا أن تبقى على وضعها وتحمي تقاليدها العريقة من التفتت. تلك هي روسيا التي عاشت منغلقة على نفسها، ولم تكن تعرف انها قوة كبرى إلا بعد الحروب النابليونية واندحارها في (محاولة غزوها حينما فسح لها ذلك الدور الجديد لتلعبه في مؤتمر فيينا عام 1814)، حينما دخل القيصر الكسندر الأول باريس راكباً مستعرضاً جنوده في جادة الشانزليزيه بباريس، معتبراً القياصرة الروس هم ورثة الامبراطورية البيزنطية القديمة منذ زواج إيفان المرعب من ابنة اخ آخر اباطرة بيزنطة واخذوا معها شعارا للنسر ذي الرأسين قبل زوالها تلك الامبراطورية عام 1453م امام العثمانيين، كما أصبحت الكنيسة الارثوذكسية المسيحية الروسية وملوكها مركزاً وحامياً دينياً مهماً تتبعه بلدان تدين، وعلى العموم فإن حقوق وصلاحيات القياصرة ظلت غير محدودة، فالأرض وما عليها هي جزء من ممتلكاتهم، ولم يفكروا يوماً أن يفقدوا منها شيئا ولو كان بسيطاً. مطالع الثورة: الأحد الدموي عند بداية عام 1905 وتحديداً التاسع من يناير قدحت شرارة الثورة الأولى بعد تراكم أحداث كثيرة مؤثرة، منها الحديث الذي خلفته الحرب الروسية – اليابانية بين عامي 1904 و1905 والتي منيت بها روسيا بهزيمة نكراء فقدت فيه أسطولها البحري بكامله وجيشها المعسكر في منشوريا، وقبلهما سمعتها التي مرغت وأهينت بمعاهدة مهينة مفروضة قيدت وجودها وأججت نوازع كامنة، فبدأت على السطح سلسلة من التذمر والاضطراب زادتها تدهوراً الأحوال المعيشية الملحة بسبب شح الغذاء وارتفاع الغلاء، وأهمها الخبز، القوت الرئيسي لعموم شعوب روسيا، فبلغت ذروة التذمر قمتها حينما أعلن عن موعد لتظاهرة شعبية بمسيرة سلمية وسط العاصمة سان بيترسبورغ، وجهتها القصر الشتوي مقر إقامة القيصر لتقديم رسالة استرحام مفتوحة. ولكن أوامر عليا صدرت بمنعها وايقافها ووعدت بالتعامل مع المخالفين بشدة وبلا رحمة، ولم تنفع وتشفع لها وساطة ومحاولة بعض الوزراء الليبراليين والمثقفين وعلى رأسهم الروائي المشهور مكسيم غوركي، بالتوسط لدى القيصر لسماع رأي الجماهير. لكنه لم يكترث وغادر كعادته العاصمة إذا ما تأزمت الأمور بعد أن اصدر أوامر صارمة إلى الجيش بتفريقها بأقسى ما يمكن إذا وصلت إلى المباني الحكومية. كان يوم المسيرة يصادف الأحد 19 يناير، في شتاء يوم جميل أشرقت فيه شمس من سماء صافية شعت على مبان تكسوها بقايا ثلج تكدس في الشوارع. فسار الجزء الأكبر من المتظاهرين نساء وأطفالاً بملابس يوم الأحد وكان يوم المراة العالمي أيضأ يتقدمهم رجل دين وسياسة يدعى غابون مرتدياً رداء قوزاق ابيض ويحمل صليباً وخلفه صورة كبيرة للقيصر. وبيده رسالة مفتوحة نصها: «صاحب الجلالة نحن عمال وسكنة مختلف احياء بيترسبورغ، وزوجاتنا وأبناؤنا من مختلف الأعمار وآباؤنا المقهورون، نتذرع لكم يا صاحب الجلالة طالبين العدالة والحماية، فنحن معدومون مضطرون أن نرزح تحت ثقل الكدح والمعاملة السيئة ويخنقنا التسلط وغياب القانون. لم تتبق لدينا قوة للمواجهة التي بارحتنا فوصلنا إلى لحظة مخيفة يكون فيها الموت أحسن من الاستمرار في معاناة ليس بالاستطاعة حملها». وحينما وصلت المسيرة إلى ساحة قوس النصر اعترضتها شرطة خيالة من وحدات القوزاق من قوات الأمن الداخلي يطلق عليها شعبياً «فروني» نسبة إلى الفراعنة، شاهرين سيوفهم مطلقين خيولهم في مجابهة المسيرة، فانتابت الصفوف فوضى عارمة، اذ بدأ بعض المتظاهرين بالتفرق بينما استمر الآخرون في مسيرتهم حتى قابلهم جنود مشاة. وبدأ الاشتباك، فكان أول من سقط جريحاً هو غابون، ولكنه نهض ليرى الثلج الأبيض قد تحول إلى لون أحمر من دمه، وسُمع يردد كلمات منها: «لا يوجد آلهة بعد الآن لا يوجد قيصر»، فكانت مجزرة بلغ عدد ضحاياها ألف قتيل، صباح يوم نحس، أطلق عليه «الأحد الدموي». بداية تعميد الثورة ضد القيصر ولم يسدل الستار على تلك المذبحة البشعة من ذلك الفصل الدموي القاطع. بل استمر تماطر الاحداث بعد مجرد وقفة لم تكن كافية لاسترجاع ما تقّطع من نفس او خاطرة دفن ذكرى محزنة نتيجة ما سلف، لاستعراض حياة هذا القيصر المبتلى بمسيرة النحس التي زاملته الى حدود التواؤم منذ توليه العرش ولم تبرحه حتى النهاية مما يجبر على الاستطراد لتتضح الرؤية وتظهر خلفية الامور جلية لا يخامرها شك او تشوبها شائبة. ليأخذنا التاريخ الى 1 نوفمبر عام 1894 بعدما مات القيصر الكسندر الثالث بعد مرض قصير عن عمر بلغ 49 عاماً. قضت مراسم توريث الحكم مرور ثمانية عشر شهراً، تزوج خلالها القيصر الجديد نيقولا الثاني وبعدها في 26 مايو 1896 بدأت احتفالات التتويج التي امتدت اسبوعاً تخللته طقوس كنسية واحتفالات رسمية، وفي 30 مايو كان هناك احتفال شعبي كبير حضره أكثر من نصف مليون نسمة عقد في مرج كبير يتسع لذلك العدد الهائل، اكثرهم من الطبقة المعدمة التي كانت تطمح الى وجبة غداء ملكية وهدية عبارة عن وعاء خزفي مطلي بالميناء، منقوش عليه الشعار القيصري والاحرف الاولى من اسم القيصر بماء الذهب. قبيل حلول منتصف النهار ابتدأ الجمهور الغفير في التدافع للحصول على هداياه، فكان نتيجة لذلك هلاكاً دوساً بالاقدام حوالي الف وخمسمئة ضحية وضعفها من الجرحى. يظهر من سجل القيصر انه اشار في يومياته عن ذلك التاريخ: «شكرا لله، كل شيء مر مثل عمل الساعة الى ان حلت كارثة توزيع الغداء والهدية حيث بدأ التدافع وحدث امر مأسوفاً عليه، اذ كانت نتيجة دهس الاقدام الف وثلاثمئة ضحية، علمت ذلك في الساعة العاشرة والنصف. وفي الثانية عشرة تناولنا الغداء وبعدها ذهبنا انا واليكس (القيصرة) الى المقصورة وكانت الموسيقى تعزف السلام. وجئنا الى القصر حيث وفود التهنئة القيت خطابين. واقيمت مأدبة عشاء بعدها رجعنا الى الكرملين في الثامنة وتناولنا العشاء مع الوالدة ثم الى حفل السفير الفرنسي مونتي بيلو وكانت جميلة التنسيق ولكن الحرارة لا تطاق رجعنا في الثانية والنصف». كانت هذه الكارثة باكورة لكوارث اخرى اتت تتابعاً، فليس من الغريب ان يطلق على هدية التتويج «وعاء الاحزان». وهكذا ابتدأت التراجيديا الروسية الحمراء تحصد في مسارها كل من يلقيه سوء الحظ امام براثن مارد مدمر كإفعوان «الهيدرا» ذلك المخلوق الخرافي ذو الرؤوس التسعة، كلما انقطع رأس ينبت محله رأسان. فأينما نظرت ترى الامور حالكة السواد على جميع الاصعدة، فالسنوات القادمة لحكم القيصر نيقولا الثاني التي امتدت اكثر من عقدين كانت شروراً مستطيرة، حملتها زوابع الرعود المزمجرة عبر شعارات جاهزة ببيوت العمال والفلاحين مكتوبة بلون الدم، مبشرة واعدة بسقوط حكم آل رومانوف، متلهفة لنشرها بالشوارع وهذا ما حدث فعلا بعد عقدين وتحديدا يوم 2 مارس 1917 حينما تنازل القيصر عن العرش كما سنرى: إحداثيات من كتاب «ذكريات مرت» ننقل ما كتبه الوزير المفوض الايراني في البلاط الامبراطوري الروسي سان بيترسبيرغ من 1895 – 1902 الميرزا رضا خان دانيش عن ملاحظاته حول بذخ البلاط القيصري والعائلة الحاكمة والطبقة الارستقراطية والغنية. حينما كان الشعب الروسي يئن من ويلات المجاعة ونقص الغذاء التي عصفت بالبلاد طولا وعرضاً لآجال طويلة ويصف موائد الطعام وما عليها من كل ما ندر ولذ وطاب فيقول: ان طاولة الطعام الرئيسية غير كافية، فهناك طاولة اخرى يطلق عليها بالروسية زاكوسكي ZAKUSKI والتي تكون مليئة ايضا بأطباق عدها فبلغت اكثر من خمسة وعشرين طبقا اضافة الى ما كان مقدما على الطاولة الرئيسية. فهناك الكافيار الطازج ونوعان من الكافيار المملح المضغوط مع خمسة من انواع الاسماك النادرة كالساردين والسلمون والتونة وانواع أخرى، ثم هناك اصناف مختلفة من لحوم المواشي والطيور النادرة كالحجل والسيابي (كويل) وانواع من الفوغرا وعن النبيذ والكحول والشمبانيا والمقبلات تتبعها اشكال الحلويات والمهضمات وانواع السجائر والتبوغ والسيجار مما يصعب عده، وتستمر تلك الموائد لساعات طويلة تحت اضواء الشموع وانغام فرقة سمفونية. القيصر نيقولا الثاني خريدة سلالة رومانوف حينما مات الكسندر الثالث في 20 أكتوبر 1894 بعد أن أصيب بمرض «برايت» في الكلية لم يمهله طويلاً. بكى وريثه نيقولا الثاني بكاءً حاراً ووجه القول إلى ابن عمه: «ماذا سيحدث لي ولروسيا عموماً. إنني لست مستعداً أن أكون قيصراً ولم أكن أريد ذلك. إنني لا أعرف شيئاً عن الحكم وطريقته ولست مؤهلاً له». لقد كان محقاً في ذلك، فنظرة أبيه عنه تؤكد ذلك، بل أكثر، فحينما طلب منه وزير ماليته أن يكون الابن عضواً في إحدى لجان مشروع سكة حديد عبر سيبيريا أجاب الأب من دون توانٍ: «لا، لأن ولي العهد بليد». والسبب في ذلك يرجع إلى الأتكيت القاسي للبلاط القيصري الروسي الذي جعل الأمراء الصغار ومنهم نيقولا منعكفين وبعيدين عن متطلبات حياة القصور الملكية العصرية الأوروبية الأخرى وعلاقتهم بما يحدث في العالم. بل كانوا أكثر التصاقاً بالمراسيم المسرحية للكنيسة الأرثوذكسية، حتى قال عنه أحد معارفه: «أنه شرقي ذو عقلية بيزنطية». مع العلم ان دماءه أوروبية في الأغلب ونسبة الروسية منها 1/128 (لأن نيقولا الثاني أمه دانمركية وزوجته ألمانية/ إنكليزية جدتها الملكة فيكتوريا، أما أبوه الاسكندر الثالث فأمه ألمانية وجده الاسكندر الثاني أمه ألمانية وزوجته ألمانية وجده الأكبر نيقولا الأول أمه ألمانية وزوجته ألمانية)، وهلم جرا. ولد نيقولا الثاني عام 1868 في 6 مايو (يوم النبي أيوب حسب التقويم الكنسي)، وكان لاحقاً يؤمن بأن القدر سيجلب عليه المصائب وعليه أن يصبر لأنه سوف يدفع سيئات وأخطاء من كان قبله. شكلت هذه المعتقدات أجواء تمخضت عنها شخصية ضعيفة متذبذبة زاد منها اختياره حاشية ومستشارين ليسوا على المستوى الذي تحتاجه البلاد من تفتح أعطت ثماره كما يواكب التقدم الذي تمر به القارة الأوروبية من تطلعات مستقبلية واعدة وتشريعات توائم روح العصر. بل أصرت أن يبقى القديم على قدمه، فأي تقدم على الطريقة الأوروبية هو تحدٍ مباشر لحكم الرومانوف. فقد شب معجباً باوتوقراطية أبيه الصلبة، يريد أن يقلدها لكنه كان ذا شخصية هشة لا تثبت أمام المصاعب، ولم يكن يثق بوزرائه فتراه يجتمع بهم أحادياً، فهو لا يشعر بالثقة بالتحدث أمام مجموعة منهم في تواصل الرد والمداولة، فأهمل القضايا المهمة التي يتطلب حلها آراء جريئة فشكلت الرؤية السياسية بالنسبة له التركيز على الأمور البسيطة ولم يعد مهتماً بشؤون الدولة المصيرية مثل ما حدث قبل وأثناء وبعد الحرب مع اليابان التي كانت من الأسباب الرئيسية لثورة صيف 1905، كما مر بنا التي كادت أن تقضي على حكمه وإن لم يحصل ذلك حينها، بل كانت تلازمه طوال المدة التي قضاها على العرش من عام 1905 حتى تنازله عام 1917 لتشكل سلسلة مرتبطة من القلاقل ما ان تنتهي واحدة منها حتى تولد ثانية، هكذا دواليك حتى أتت الطامة الكبرى بصورة حرب عالمية بلغت ضحاياها الملايين وأفلست الخزانة وقضت على أي أمل لاستمرار نظام الحكم القيصري حينما كانت روسيا في ذلك الوقت تحتاج قيادة بارعة التصور نيرة القرار لكنها ابتُليت بحاكم لا يتمتع بصورة عامة، ما يؤهله القيام بهذا الدور ومن دون مبالغة، فإن خلاصة القول عن أي حكم مهم اتخذه كان خطأ ومن ضمنه اختياره زوجته الكسندرا ما ضاعف بليته في سوء التقدير لقراراته في السلم أو الحرب.

مشاركة :