الوحدة شعور عنيد يصيب الأفراد في المجتمعات الحديثة كثيرا ما ينتابنا شعور غامض بالوحدة، وكأن لا أحد بقربنا يمكن أن نتحدث إليه، وكأن شيئا ما يحني ظهورنا فلا نملك معه أن نصوب نظراتنا إلى الأمام، فنغرق في نهر عميق من الحزن والقلق، والخوف الذي ينتابنا ليقيننا بأننا لن نستطيع أن نتخلص من هذا الغرق ولن يعود بإمكاننا أن نهرب من وحدتنا. العربنهى الصراف [نُشرفي2017/02/15، العدد: 10544، ص(21)] الشعور بالوحدة نتيجة حتمية لانهيار الروابط المجتمعية نعاني من شعور بالفراغ، والرغبة في التواصل مع أي شخص وربما شخص معين نتوق إلى الحديث إليه، هذه الرغبة العنيدة التي تضغط علينا طوال الوقت وكأنها صخرة تجثم على أنفاسنا فلا نستطيع منها فكاكا. “فإذا كانت لديك هذه الأعراض وتشعر بالوحدة حقا، فأنت لست وحدك”، يقول الدكتور روبرت ليهي؛ أستاذ الطب النفسي في كلية الطب – جامعة وايل كورنيل الأميركية ومدير المعهد الأميركي للعلاج المعرفي السلوكي. ويرى ليهي أن الوحدة هي أحد أكثر المشاعر غير السارّة شيوعا والتي خبرها الملايين من البشر حول العالم، حيث تمثل شعورا متكررا من اليأس والحزن للبعض، في حين تكون مجرد عاطفة عابرة للبعض الآخر قد لا يصادفونها سوى مرة واحدة في حياتهم، ولكنها على أي حال هي شعور لصيق جدا بالنفس البشرية وإحدى سماتها الانفعالية. يلجأ بعض الأشخاص إلى تناول الكحول أو الإفراط في تناول الطعام لقمع هذه المشاعر غير السارة، ولعل إغراق النفس تحت وطأتها قد يؤدي إلى شعور حاد بالاكتئاب، بفعل اجترار علامات التعجب والأسئلة التي يطرحها المرء على نفسه مثل “لماذا أشعر بالوحدة دائما؟” أو “لا يمكنني أن أكون سعيدا، طالما كنت وحيدا بهذه الصورة!”. هذا اليأس واللاجدوى هما الأكثر خطورة وحساسية من الشعور بالوحدة ذاته؛ إذ أن اليأس يمكن أن يأخذ صاحبه إلى مسارات ملتوية بغرض الهروب والتواري ولو لفترة محدودة، فيلجأ إلى تناول الكحول والمخدرات أو اللجوء إلى خيارات أخرى أكثر سوءا. ويقترح الدكتور روبرت ليهي مجموعة من الاستراتيجيات التي يمكنها أن تسهل تعاملنا مع الشعور بالوحدة منها، التطبيع مع الوحدة. التخطيط للقاء الأصدقاء أو العائلة أو الذهاب إلى السينما أو المشي من أنسب الخيارات للتهرب من الوحدة وبحسب جون كاجيبو؛ الباحث الأميركي المتخصص في مجال الوحدة ومن خلال دراسات عدة أشرف عليها على مدى عقود من الزمن، ارتفعت نسبة الأشخاص الذين يشعرون بالوحدة والذين كانوا عينة لدراساته، من 11 بالمئة في عام 1970 إلى 20 بالمئة عام 1980، حتى وصل الرقم إلى 45 بالمئة في الدراسة الأخيرة التي أشرف عليها سنة 2010. ووفقاً لهذه الأرقام الكبيرة، يؤكد متخصصون على أننا لسنا لوحدنا في هذه المعاناة، في حين يرجعها أغلبهم إلى انهيار الروابط المجتمعية على مدى العقود الأربعة الماضية، ومنها حالات التفكك الأسري، ارتفاع معدلات الطلاق، الابتعاد عن أماكن العبادة وانخفاض المشاركة في مؤسسات المجتمع المدني والنقابات العمالية مثلا. ولكن هناك جانبا إيجابيا في الوحدة، بحسب علماء الاجتماع، فمن شأنها أن تذكر الأفراد بأهمية قيم الترابط الاجتماعي في حياتهم، مثل علاقات الحب والصداقة وحتى تبادل المعرفة والخبرات مع الآخرين الذين تربطنا بهم علاقات سطحية، هذه الروابط من شأنها أن تذكر الناس بأنهم بشر طبعوا على التواصل مع بعضهم والعيش المشترك. وينصح كاجيبو الأشخاص الذين يعانون من وحدة متكررة، محاولة مواجهتها بخطة مسبّقة؛ فهناك أوقات معينة قد يعاني فيها الأشخاص من الشعور بالوحدة أكثر من غيرها مثل، أوقات المساء أو عطلة نهاية الأسبوع ولعل التخطيط للقاء الأصدقاء أو العائلة أو الذهاب إلى السينما أو اختيار بعض البرامج والمسلسلات لمشاهدتها في المنزل، أو ممارسة رياضة المشي في الأماكن المفتوحة والمتنزهات أو التسوق في عطلة نهاية الأسبوع من أنسب الخيارات للتهرب من الوحدة. فإذا كانت المشاركة في مثل هذه النشاطات تحتاج إلى صحبة اجتماعية في بعض الحالات، فإن هذه الصحبة ليست ضرورة على الإطلاق لمن يعاني من قلّة علاقاته الاجتماعية. ويرى جون كاجيبو أن الذهاب إلى السينما أو معرض فني أو جولة مشي أو انتقاء برامج لمشاهدتها في المنزل، لا تحتاج بالضرورة إلى مشاركة الآخرين، ولكن ربما يتردد البعض في فعل هذه الأمور من دون صحبة حتى لا يقابل نظرات الشفقة في عيون الآخرين، وربما تكون هذه الأفكار غير صحيحة، فالأشياء لا تبدو هكذا من منظور الناس الذين ينشغلون أيضا بالقيام بنشاطاتهم الخاصة ولا يعيرون اهتماما للغير، وحتى وإن حدث هذا، فلماذا ينبغي علينا الاهتمام بما قد يعتقدونه؟ على العكس من ذلك، يقول كاجيبو، القيام بهذه الأمور من دون الحاجة إلى صحبة الآخرين يعني أنك شخص تتمتع باستقلالية وحرية وثقة بالنفس أيضا وفي الوقت ذاته، فإنها تبدو فرصة مناسبة للتعرف إلى أناس جدد وبناء علاقات من شأنها أن تحارب أوقات الوحدة الطويلة. ومن ناحية أخرى، يفسر البعض وجودهم وحيدين وبعيدين عن الاتصال بالآخر، على أنه وحدة حيث تنهال عليهم أفكار قاتمة كونهم غير سعداء ولا يستطيعون تحمل المزيد وبأنهم خاسرون وغيرها من الأفكار السلبية التي تعمق هذه المشاعر، لكنهم في الحقيقة ليسوا وحيدين وكأنهم في جزيرة منعزلة؛ فالحياة بمفرداتها الصاخبة موجودة حولهم وكل ما هنالك أن اتصالاتهم بالآخرين شبه مقطوعة أو معلّقة لأسباب طبيعية أو تحددها طبيعة الحياة العصرية، التي تجعل الناس تدورون في دوامة الانشغالات فتنسي من حولها. وهذه فرصة جيدة كما يراها متخصصو علم الاجتماع، حيث توافر الوقت بعيدا عن الآخرين يعني أن الفرد سيتمتع بحريته الكاملة في ممارسة هواياته المفضلة أو قضاء وقت ممتع بعيدا عن الضجيج؛ أو قراءة كتاب، أو الاستماع إلى موسيقى مفضلة، أو طهي الطعام، أو ببساطة القيام بالأشياء المحببة إلى النفس من دون الخضوع لمزاج الآخرين وخياراتهم.
مشاركة :