يحلم، ينظر، يتأمل، يتعمق، يتقد، يتفاءل، ينطلق، يحاول، فيحبط، يتعب، يحزن، يتألم، فينطوي، فيمرض، فيموت دون جلبة، يصيح أقرانه بعد دفنه الثاني (كان كذا فكرموه)، وبعد أسبوع يُدفن ذكره الدفن الأخير فلا تحس له ركزاً. الخريطة السابقة منقوشة على جبين كل مفكر، يحيا غريباً، فيموت غريباً، يدفن مرات ومرات، ليس لشيء وإنما لأنه يأنف السير في ركاب المألوف، ويأبى الحركة الاعتيادية في قنوات مسكوكة مسبقاً، يشقى بالصعود لأنه يكره الأفقية، ولأنه دائماً يرى النور في الأعلى، فالأسفل في نظره هلام ناعم، لا يرى الراسف فيه إلا ما يراه السائر أمامه وهكذا السائر خلفه، فلا تفضي منحدراته إلى شيء. حين يلمح المفكر فوق ظلمات الهلام يراعة مضيئة، يحدث الجلبة، يحاول فرد جناحيه، يصيح فيمن حوله أن يرفعوا رؤوسهم، أن يتحركوا ويساعدوه للإمساك بها، تأبى رؤوسهم الحركة، يتعوذون من جنونه وغبائه، فيصرف عمراً لإقناعهم أن ينظروا تجاه اليراعة، يتنازل عن مساعدتهم، كل طموحه فقط أن يصدقوه، فيهمهمون في دروبهم المسكوكة، ويدعونه يطارد تلك اليراعة، وإن اصطادها وعاد إليهم تفّهوا جهده واتهموه وقيدوه، وأطفأها الهلام الكثيف. شجرة المفكر ليست شجرة عادية تنمو على فروعها الأوراق، بل ورقة تنمو منها الفروع، لذلك تكون تركيبتها مستغربة ومستنكرة ومتهمة، وحين يضيف إليها البحث عن النوافذ والأبواب في الفراغ، والحديث عن المستحيل في الممكن، والصعب في السهل، والطيران دون أجنحة، يراه القوم (ضالًا مخبولاً)، فمن يحمل مصباحاً مضيئاً في النهار (الافتراضي) يا ديوجين؟! ربما الحياة اليوم أسهل من الأزمنة الغابرة، والهلام الكثيف يتماهى أفقاً، فيه بعض الضياء، لكنه أكثر شراسة حين يزداد نعومة، وتزداد كثافته فتحني الأعناق، حتى أعناق الكثير من المثقفين تنحني للبحث عن اليراعات في القاع، وكلما ضاقت مساحات النظر، أحجمت خلايا العقل عن التفكير، فالعقل مخلوق نفاث لا يتحرك في المساحات الضيقة المحدودة، لذلك كان الخطاب القرآني كله ينصب على الفضاء، والنظر إلى السماء، ولن تجد فيه الفعل (أطرق) أي نظر إلى الأسفل وفكر، بمعنى التفكير الكوني الذي يحدث فرقاً. البحث المستحيل عن اليراعات في القاع هو المسؤول عن ندرة (المفكرين) اليوم، فكل ما في القاع لا يعدو رزقاً محدوداً يفرح به (ضيق الأفق)، أكان نفطاً أم ذهباً أم زرعاً أم أياً كان، وفي قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) أراه أشمل وأكبر من اقتصاره على (المطر وتقدير الأرزاق) فالسماء أكبر وأوسع مما يحيط الأرض من سحاب قريب. أجنحة العقول لا تنتشر في الهلام، ترهبها القيود فتظل مقبوضة، وهيهات أن يحلق العقل في وسط كثيف ضيق، وليت الناس يغضون أبصارهم (فقط) عن كل عقل حاول فرد جناحيه، دعوه يطير فربما أصاب نوراً يصاقبه وأضاءنا به، أو احترق وأراحنا، وحينذاك لستم بملومين.
مشاركة :