ابن الطفيل.. جدلية الجسد والروح

  • 2/19/2017
  • 00:00
  • 32
  • 0
  • 0
news-picture

يخطئ من يعتقد أن ابن الطفيل مجرد أديب أو قاص آخر. فالمتتبع لأطروحاته وآثاره الأدبية سيدرك جيدا أن صاحبنا رجل فلسفة وفكر فقد استطاع أن يُضمّن كتاباته فكره ورؤاه عن الدين والوجود وعوالم الروح والإنسان. فهو عبر قراءاته في الفلسفة اليونانية والإرث الفكري الساساني، ومكونات الفترة الزمنية الحرجة التي عاش فيها، ساهم في تعزيز مفاهيمه وانطباعاته وصوره الذهنية عن الإنسان وتوقه إلى الانعتاق من قيود الجسد والانطلاق إلى عوالم الروح بما فيها من رفعة ونقاء وترفع عن الشهوات والمطالب الدنيوية. في اعتقادي أن ابن الطفيل لم يكن يعتد بالطرح الذي يعتبرالتفكر والتأمل هما السبيل الوحيد للوصول إلى الحق. وإنما كان يؤمن بتنوع أنماط الفكر وتفاوت الملكات العقلية والفكرية. فهو يرى أن العقل يستطيع الوصول إلى الحق مباشرة حتى لو وضع وهو صغير في جزيرة نائية وتربى ونشأ دون أن يصادف أو يلتقي بشرا. على أن ابن الطفيل لم يحدد الكيفية ولكنه أشار إلى نتائجها وربما يكون في طرحه هذا قد تأثر بقراءاته في فلسفة أرسطو عن الخالق وكذلك بأطروحات الدراويش وأئمة الصوفية آنذاك. ويتضح لنا بعض من فكره في قصته الشهيرة (حي بن يقظان). إذ نجده يرسم مشهدا مؤلفاً من جزيرتين، في إحداهما يضع المجتمع الإسلامي بثقافته وأعرافه وعاداته وتقاليده وطوائفه الدينية. وفي الجزيرة الثانية ينشأ رجل وينمو على الفطرة، هو بطل قصتنا (حي بن يقظان). ابن الطفيل في قصته يخبرنا أن (حي) قد ترعرع على هذه الجزيرة إلى أن أصبح فيلسوفا كاملا، ويغفل في نفس الوقت عن تزويدنا بجملة التفاصيل المتعلقة بدقائق طفولة ونشأة (حي بن يقظان) هذا. فربما قد جيء به إلى أرض هذه الجزيرة وهو طفل صغير وترك هناك. وتم إطعامه من خلال قيام ظبية بإرضاعه أو ربما قد نشأ في هذه الجزيرة من خلال التوالد الطبيعي من العناصر الأرضية. ومن ثم تمكن من توفير احتياجاته المادية بوسائله الخاصة. كما أنه ومن خلال استخدام (الملاحظة، والتفكير، والتأمل) استطاع أن ينجح في أن يتوصل إلى معرفة السماء والطبيعة ومعرفة نفسه ومعرفة خالقه. ثم تمضي القصة لتخبرنا عن التقاء ابن يقظان مع (آسال) الذي أتت به الصدف إلى الجزيرة التي يحيا عليها ابن يقظان، وأنهما قد تفاهما بلغة الإشارة نظرا لكون (حي) نشأ دون أن يتعلم اللغة ولكن بجهد ومشقة استطاع بعد ذلك أن يتفاهم مع (آسال) الذي عرفه بالدين الإسلامي وحقيقته. يعلم (حي) أن هناك أمة تعيش على الجزيرة المقابلة ولكنهم يعيشون للدنيا ويتخبطون في ظلمات الجهل الديني، يقرر الذهاب إليهم ودعوتهم للحق وتنويرهم دينياً. فينتقل إليهم ويتعايش معهم ليكتشف بعد حين من خلال تجربته مع هؤلاء العامة أنهم (لا يمتلكون القدرة على إدراك الحقيقة مجردة) وأن محمدا عليه أفضل الصلاة والسلام كان على صواب، إذ بين للناس الحقيقة بضرب الأمثال الحسية. تلك النتيجة قد أصابت (حي) بالإحباط ومن ثم قرر أن يعود هو وصديقه (آسال) إلى جزيرتهما وأن يتفرغا لعبادة الله عبادة روحية خالصة ماتبقى لهما من العمر. ماتطرقت إليه في مقالي اليوم هو أنموذج بسيط عن ذلك الرقي الفكري الذي بلغه أسلافنا المسلمون والعرب. وعن نوعية المواضيع الفكرية التي يتناولونها في مبحثهم الكتابي. فهل سنستعيد ثقافتنا المغيبة وهل سنسترد رقينا الفكري؟

مشاركة :