هل وقعت الخدمة التي قدمها السيستاني إلى المالكي، ومن ورائه إيران، صدفة، أم أن الرجل الصامت لم يتكلم أصلا، بل نسبت إليه الحلول التي صنعت أسطورة داعش. العربفاروق يوسف [نُشرفي2017/02/22، العدد: 10551، ص(9)] هل كان ممكنا أن تقوم دولة داعش على أنقاض العراق وسوريا؟ هناك طبعا مَن يروج لفكرة ذلك السؤال إيجابيا، كما لو أن قيام تلك الدولة هو أمل الشعوب في المنطقة، بعد فشل النظام السياسي العربي في إدارة أزماته، وتصريف شؤون مواطني دول عربية، سلمها ذلك الفشل إلى الهلاك. وكما أثبت الواقع فإن مروجي تلك البدعة مختلفون في أهدافهم، كما في نظرتهم إلى ما يمكن أن يجنوه من منافع. بالتأكيد هناك جموع من المتخلفين والجهلة ومسلوبي العقول والإرادة تؤيد قيام تلك الخرافة، من غير أن تُعنى بالمقومات الواقعية لقيامها. غير أن الأسوأ يكمن في خطط الأطراف التي وجدت في الترويج لها فرصة لتحقيق مكاسب سياسية عن طريق الكذب الصريح على حساب الحقيقة. تلك الأطراف المستفيدة من ظهور تنظيم داعش نجحت في صنع مزاج شعبي يقوم أساسا على الشعور بالذعر في مواجهة خطر تمدد دولة الدواعش على كامل التراب العراقي، وهو ما ساعد على إشاعة أكاذيب، أريد من خلالها إضفاء نوع من الشرعية على الهيمنة الإيرانية في العراق، إن بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال تكريس ميليشيات الحشد الشعبي التي لولاها- كما قيل- لسقطت بغداد في أيدي الدواعش. لا يتعلق الأمر بالمبالغة أو الخطأ في التقدير، بقدر ما يتعلق برغبة مبيّتة في انتهاز فرصة ظهور التنظيم الإرهابي من أجل القفز على حلقات الفساد التي قادت إلى الفشل السياسي الذي انتهى إليه العراق دولة لا أمل في قيامها. فهل كان ظهور داعش بمثابة قارب نجاة بالنسبة إلى سياسيي العراق من أجل طي صفحة فسادهم إلى الأبد؟ لا يزال نوري المالكي الذي وصل التنظيم الإرهابي في عهده، عندما كان رئيسا للوزراء، إلى ذروة نجاحاته، يتقدم الصفوف الداعية بحماس إلى تكريس الحشد الشعبي باعتباره حدثا تاريخيا، كونه الدرع الذي حمى بغداد من السقوط، وهو في ذلك إنما يسعى إلى إعادة الاعتبار إلى نفسه انطلاقا من نظرية الخيانة (السنية) التي غدرت به ومن خلاله بالعراق. المالكي، وفقا لنظريته، لم يسلم ثلث أراضي العراق إلى داعش بناء على أوامره إلى الجيش العراقي بالانسحاب، وهي الحقيقة التي أقرها تقرير مجلس النواب العراقي، بل حدث ما حدث بسبب تواطؤ قيادات سنية (لا تزال موجودة في الحكم) مع التنظيم الإرهابي من أجل القضاء على تجربة الحكم الشيعي الرائدة في بغداد. شيء من اللامعقول يحكم تلك النظرية. لو افترضنا وجود الخيانة فلمَ لا يقدّم الخونة إلى المحاكمة؟ ولكن ما علاقة تلك الخيانة بانسحاب الجيش العراقي من مواقعه تاركا أسلحته الحديثة قبل وقوع أي قتال، بل قبل قدوم التنظيم الإرهابي بسياراته المدنية؟ هل هناك نكتة أكثر سذاجة وأشد سوداوية من تلك النكتة التي حوّل المالكي من خلالها العراق كله إلى قفص يسرح الدواعش في جزء منه، فيما تتثاءب عصابات الحشد الشعبي في الجزء الآخر منه؟ من وجهة نظر معصوبي العيون فقد كانت دولة داعش على وشك ابتلاع العراق لولا فتوى الجهاد الكفائي التي نطق بها السيستاني، وهو المرجع الشيعي الأعلى في النجف في اللحظة العصيبة. تلك هي الفتوى التي أنقذت المالكي من مواجهة مسؤولياته، كرجل دولة، عن الهزيمة التي مني بها الجيش العراقي. هل وقعت الخدمة التي قدمها السيستاني إلى المالكي، ومن ورائه إيران، صدفة، أم أن الرجل الصامت لم يتكلم أصلا، بل نسبت إليه الحلول التي صنعت أسطورة داعش التي لا تزال تغذي خيال البسطاء بمعجزات الحشد الشعبي الذي هو في واقعه اختراع إيراني؟ كانت دولة داعش المزعومة مناسبة لاختراع الحشد الشعبي الذي هو يد إيران الضاربة في العراق. ولأن قيام تلك الدولة لا يمكن أن يستوي قياسا لمنطق العصر بكل ما ينطوي عليه من معادلات سياسية، فإن كل ما حدث في الجبهة المناهضة لقيام تلك الدولة إنما يُعدُّ نوعا من الخيانة السياسية التي لا يمكن أن تُغتفر. لقد تُرك مصير الملايين من العراقيين (والسوريين أيضا) عرضة للهلاك من أجل أن تنجب إيران مولودها الحشد الشعبي. ليس مهمّا إذا ما كان السيستاني هو عراب تلك الحفلة، أم لم يكن. فالرجل ليس رقما صعبا في المعادلة وإن بدا كذلك. غير أن الرابحين من ظهور داعش ونبوءة قيام دولة الدواعش هم حكام العراق اليوم. أليس داعش مكافأة ثمينة؟ كاتب عراقي فاروق يوسف
مشاركة :