لا شك أن غياب مراكز الدراسات المحترفة - وليست الوهمية - جعلت الإنسان العربي مثل حاطب ليل في سهول موحشة يلفها الظلام الذي كلما زادت وحشته يصبح الحطاب مرعوباً ومشدوداً نحو نجاته، غير آبه بما هو عدا ذلك. المشهد السياسي العالمي يؤكد أن دول الشرق الأوسط وبالذات العربية منها أريد لها أن تكون دولاً حاطبة ليل، لا شغل لها سوى التفكير والعمل على نجاتها من وحوش الغابة فتنشغل بحماية نفسها وبناء المتاريس وشراء الأسلحة من أجل ذلك. جميع دول العالم صغيرها وكبيرها أولها وثالثها تهتم بتأسيس مراكز أبحاث جيوسياسية وتضخ عليها الأموال الطائلة لاستشراف المستقبل وقراءة قادم الأيام وما تحمله من مخاطر وبشائر، لحماية الدولة من أي مفاجأة ليست في الحسبان ولم تكن متوقعة. وهذا ما حدث لدول أوروبا التي ذهبت بعيداً في هذا المجال، فكانت ترصد الأحداث وتحللها، فخرجت بنتيجة مفادها ضرورة اتحاد جميع الدول الأوروبية وشعوبها على اختلاف مشاربهم تحت مظلة واحدة وكيان واحد، منذ الخمسينات الميلادية والأوربيون يدرسون هذا القرار الذي يصبح ضرورة ملحة كلما تقدمت الأيام وذهبت الاحتمالات نحو أن تصبح واقعاً لا مناص منه. قرأت مراكز الأبحاث الأوروبية المستقبل السياسي والاقتصادي لدول العالم فاستنتجت أنه لابد من التكتل، وهي كفكرة اقتصادية تشبه تكتل الشركات التجارية تحت مظلة شركة واحدة لتفادي الخسائر وتحقيق أرباح أكثر عندما يكون المناخ الاقتصادي ضعيفاً بشكل عام، وكفكرة سياسية اكتشف الأوروبيون بأن دولهم منفردة ستواجه صعوبات جمَّة في عالم يتجه نحو سيطرة قطب واحد على دول وشعوب كوكب الأرض والتحكم به دون حسيب أو رقيب، فكان قرار الاتحاد الأوروبي من أهم القرارات السياسية والاقتصادية في التاريخ الحديث. ومن الطبيعي أن تمرر هذه الدول بأن قرارها يندرج تحت مصالحها الاقتصادية البحتة دون أي إشارة للمصالح السياسية لهذا الاتحاد الذي جمع في يوم وليلة نصف مليار نسمة في كيان واحد يتداولون عملة واحدة مند عام 1999م أسموها اليورو لتحل كثاني أقوى عملة في الأسواق العالمية. منذ قرار اتحاد دول أوروبا بدأت الكثير من الدول التي تملك مراكز أبحاث متقدمة في المجال السياسي تدرس مسببات هذا القرار الذي نسف كل المعوقات الكثيرة والمعقدة التي كانت تحول دون تطبيقه على أرض الواقع، لأن كل دولة أوروبية تمتلك هوية وطنية تختلف اختلافاً جذرياً عن الأخرى، كما أن مصالحهم الاقتصادية لا تلتقي في خط واحد وتتضارب في أغلبها. ومن هذه الدول روسيا والصين واللتين بدأتا تتحركان ككيان واحد لمواجهة شرطي العالم الأوحد خصوصاً أن هذا الشرطي يضعهما في رأس قائمة المستهدفين للإذعان لأوامره وقبول توجيهاته وتغليب مصالحه على الجميع. السؤال الأهم من هذا كله: ألم تدرس الدول العربية الأسباب الحقيقية التي أدت إلى إجبار دول أوروبا على الاتحاد؟! من آخر البحر مثل ناسك أجلس في محراب المدينة التي اغتسلت بالمطر أبحث عن عيون امرأة مظللة بالكحل عن شفتين اشتعلتا كحقول الكرز الأحمر عن قلب يقرع نبضه مثل أجراس الكنائس ليلة الميلاد ووقت الصلاة في أيام الأحد
مشاركة :