يكتب جان هاشم في روايته الأولى «تلّة الملاّح» (دار سائر المشرق، 2014) قصّة كلّ كاتب ونزاع كلّ روائي مع الورقة: كيف يبدأ؟ من أين يمسك بزمام الأمور؟ كيف يحكم قبضته على كلماته وشخصيّاته وقصّته؟ يتحرّك كاتب جان هاشم في شقّته متعرياً من كل ما علق به. كأنه بِالحال هذه، يريد العودة إلى الأصول، يريد الخروج من الحضارة الرتيبة والعادة القاتلة والإنسانيّة المقنّعة ليبحث في ذاته عن الجوهر، عن حقائق وقصص وأحداث يكتبها وتحوّله إلى الكاتب الذي طالما رآه في نفسه، إلى الرجل الناجح الذي طالما ادّعى أنّه هو. «ومجدّدًا عزم على الانصراف إلى الكتابة، افرغ المنفضة من أعقاب السجائر، حملها إلى حيث أوراقه على طاولة غرفة الطعام. رتّب الأوراق البيض، قلّب القلم بين أنامله وجمد مفكّرًا» (ص 89). يصف هاشم في روايته أفكار - ومخاوف ورغبات - كاتبه المنعزل في بيته، الوحيد في حيّ خال من أهله الذين توجّهوا إلى مصيفهم. يصف هاشم خوف كلّ كاتب من الورقة البيضاء، ويصف تخبّطه في أفكاره وقصصه وعجزه في أحيان كثيرة عن رصف الكلمات وتهذيبها وصقلها وجعلها على الورق مشعّة متوهّجة. بطل جان هاشم هو كاتب طموح، يريد أن يكتب أكثر من أيّ شيء آخر في حياته، منذ طفولته يسمع أمّه تفخر به وتعد نفسها وجاراتها والمطران حتّى، تعد الجميع بنجاح ابنها، تعدهم بذكائه وتتوقّع الأفضل منه. فصبّت المرأة هذا الوعد في ذهن ابنها، وحوّلته إلى الكائن العقيم المتوحّد الذي أصبح عليه، لمجرّد رغبته في تحويل نفسه إلى الرجل الذي أرادته وحلمت به. ولكن شتّان ما بين الكلام والواقع، شتّان ما بين الأحلام والحقيقة. فها هو رجل مطلّق، ابتعد عنه أصدقاؤه لكثرة تبجّحه وفخره بنفسه، كاتب ضمن التجربة لا ينفكّ يمزّق الأوراق التي كتب عليها، وأقرب ما يعيشه من الحبّ هو تفكيره في طالباته الجامعيات اللواتي يبتعدن عنه ولا يسمحن له بتخطّي حدوده معهنّ. وإذا شاء القارئ تحديد موضوع الرواية ومحور الكلام فيها ووظيفة بطلها فيمكن أن يُسقط ذلك كلّه في كلمة واحدة : الكتابة. الكتابة هي العقدة والبداية والأحداث والنهاية، هي الجوهر والهدف والوسيلة والغاية، هي الحلم والوعد اللذان يعجز البطل عن وضع يده عليهما. الكتابة هي غاية الكاتب ووسيلته الوحيدة لبلوغ النجاح وتحقيق ذاته، ولكنّها ليست بالسهولة التي تبدو عليها، فنجد الكاتب حائرًا مضطربًا، عاجزًا عن الإمساك بأفكاره أو الالتزام بها. يقف، يجلس، ينام، يخرج إلى الشرفة، ثمّ يعيد حركاته كلّها من دون أيّة نتيجة. بؤرة أدبية وركود قاتل وأوراق بيضاء لا تمتلئ، فتؤرقه وتفسد عليه أحلامه وتنتهي بخنقه وإدخاله إلى المستشفى. يعود جان هاشم بقارئه إلى أخبار القرى اللبنانيّة والبلدات الريفيّة المنعزلة بشخصيّاتها الغريبة وقصصها المضحكة بعفويّتها وتلقائيّتها. يعود إلى كتابات مارون عبّود وتوفيق يوسف عوّاد وإميلي نصرالله ويوسف حبشي الأشقر وميخائيل نعيمة وغيرهم من الروائيّين الذين كتبوا عن الشخصيّة اللبنانيّة القرويّة ووصفوها ونقلوا أخبارها. «سعدى سعدى السِعْدِاني/ نَطِّتْ عَالِخْزاني/ أكلِتْ الفارة/ وخلِّتْ الباتنجاني» (ص81)، وسعدى هي من الشخصيّات التي توقّف عندها كاتب جان هاشم. امرأة بسيطة تبحث لنفسها عن عريس شاب على رغم تقدّمها في العمر، فتروح تتحدّث إلى نساء البلدة لتطلب يد أحد أبنائهنّ. وتظهر أيضاً صورة منصور الشاب المدلّل الماكر الذي فقد عقله جرّاء حوادث بسيطة وسوء تعاطي المجتمع معه وكثرة إعطائه المهدّئات والمسكّنات. وشهيد الحملاوي الذي يعود ابنه يوسف من بلاد المهجر ليتزوّج، والذي رغم عقمه، يُرزق بفتاتين وصبيٍّ من غير أن يشكّ بامرأته إنياس. وقصص كثيرة منها المضحك ومنها المؤلم، ولكن يبقى رحيق الأرياف والبلدات البعيدة هو المسيطر. عبر الاسترجاعات الكثيرة التي يعتمدها الكاتب، يكتشف القارئ نمط حياة أهل بلدة البطل، يكتشف ألعاب الأطفال ومشاحناتهم، أفكارهم وعالمهم ونظرتهم إلى الراشدين المحيطين بهم، قبل أن يتحوّلوا هم أنفسهم إلى «كبار» يعملون ويتزوّجون وينجبون وربّما يحقّقون شيئًا من أحلام طفولتهم إن كانوا محظوظين. وعدا عن الزهريّ من الذكريات، تحتفظ بلدة جان هاشم بأبرز سمات المجتمع الشرقي الذكوري المحافظ الذي يتقبّل خيانة الرجل ويرفض الطلاق حين تطلبه: «ومن المسلّمات في ذلك المجتمع أنّ الزوجات كثيرًا ما كنّ يغضضن الطرف عن هذا السلوك إلاّ في ما ندر. نادرًا ما كان يحدث الطلاق، ليس لأنّه ممنوع كنسيًّا وحسب، [...] بل لأنّه غير مرغوب فيه بين الأهل والمجتمع حيث النظرة إلى المرأة المطلّقة تصمها بالعار والدونيّة» (ص 58). «أين أنا في الظل؟ هذا ظلّ المبنى وأنا في المبنى، فيجب أن يكون ظلّي في الظلّ. أين ظلّي في الظلّ الكبير؟ ما موقعي فيه؟» (ص77)، قد تكون الفكرة الأكثر تكرارًا في سياق رواية هاشم، والكلمة الأكثر ورودًا في السرد هي كلمة «الظلّ». فالكاتب البطل يراقب ظلال الأشياء ويقارنها بحجمها الأساسي ويقارنها بظلال الأشياء المحيطة بها. كما أنّه يبحث عن ظلّه، يبحث عن الاتحاد به، يبحث عن إخراجه من ظلّ المبنى الكبير الذي يلتهمه ويمحوه ويصهره داخله. وهذا البحث المضني الدؤوب ليس سوى البحث عن الذات، عن النجاح، عن التفرّد... عن الكتابة. يبحث الكاتب عن ظلّه، يفكّر فيه، يراقبه، يحوّله إلى صورته، إلى ذاته الأخرى، إلى ندّه، وصديقه، وعدوّه، وحليفه، والرجل الذي يخشاه، والرجل الذي يريد الاتحاد به. «تلّة الملاّح» رواية الكتابة والبحث عن الذات. هي رواية متماسكة، متينة السبك، وصفها دقيق مُقلق ومربك بالقدر المناسب. وتبقى الكتابة هي الضالّة، أو السماكة النفسيّة التي ستؤمن للبطل نجاحه وتكون سبيله لتحقيق أحلامه. تبقى الكتابة العبء المهلك والخلاص المنتظَر، الاختناق القاتل والحياة الأبديّة. آداب وفنون
مشاركة :