لويجي بيراندللو ورواية البحث الفلسفي عن الذات

  • 11/4/2018
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

فجأة تحطم زوجة سباستيانو المرآة التي كان يعتقد أنه يرى فيها صورته الواقعية، عندما تسحبه من داخلها وتضعه أمام صورته الآخرى كما تبدو في مرآتها، وقد ظهرت عليها فجأة عيوب جسده دفعة واحدة. شعور حاد بالمرارة والهزيمة يطيح بسلامه النفسي والعقلي عندما يكتشف أن أكثر الأشياء التصاقا به هي الأنف والأذنان واليدان والساقان ليست طبيعية كما كان يتوهم، الأمر الذي يجعله ينقلب على نفسه ويبدأ معاناة البحث عن صورته كما تبدو في عيون الآخرين، وعن صورة الآخرين كما تبدو لديه. مع هذا الانقلاب المفاجئ والمؤلم تبدأ معاناة بطل رواية “واحد ولا أحد ومائة ألف” لـ الروائي الإيطالي لويجي بيراندلّلو التي حاز عليها جائزة نوبل للآداب عام 1934 ( منشورات المتوسط 2017) ومن هذه العتبة التي تخترق فيها جملة الاستهلال حدث الرواية تبدأ أحداث الرواية، التي تتوزع على ثمانية كتب، وكل كتاب منها على مجموعة من العناوين الفرعية، التي استبدل بها التقسيم التقليدي للرواية، حيث تطغى السخرية والمرارة على لغة السرد ومواقف البطل/ الراوي، وهو يمضي في هذه المسافة من جنون البحث عن صورته التي لا يعرفها في مرايا الآخرين. بيراندلّو يستبدل التقسيم التقليدي للروايةبيراندللّو يستبدل التقسيم التقليدي للرواية رواية فلسفية على هذه الخلفية الفلسفية والوجودية ينهض عالم السرد الروائي مع محاولة بطل الرواية سباستيانو كوانتو تسو استعادة نفسه والعثور عليها ( أنا الواحد واللا أحد والمائة ألف على طريق الخلاص). في مسافة التوتر المشدودة بين هاتين الشخصيتين يبدأ صراعه أولا مع مدير البنك الذي يملكه، والذي بسببه يطلق الآخرون عليه لقب المرابي، ثم مع زوجته التي كان بالنسبة لها الفتى جينجيه الأبله، وبعد ذلك صديقة زوجته آنا التي كانت تتصارع فيها شخصيتان هما شخصية آنا التي تشتهيه وشخصية آنا التي تريد قتله. وهكذا فإن بطل الرواية موسكاردا الذي كان واحدا لذاك وواحدا آخر لتلك يدخل مرحلة من يصبح عاجزا عن استعادة أجزاء الحياة السابقة، التي كان يعيش فيها بعد أن بدأ بتحطيم تلك الشخصيات التي كان يمثلها في عيون الآخرين بدءا من زوجته ديدا. إن شخصية موسكاردا التي تتحول إلى موسكاردات عديدة تقلب حياته رأسا على عقب، فتنشأ عنها مجموعة من خيوط السرد الدرامية، التي تظل تتطور وتدفع بأحداث الرواية إلى النهاية التي يجد نفسه فيها متحررا من كل الشخصيات الأخرى، شخصية المرابي التي كان يراه أهل بلدته فيها، وشخصية الرجل المتبطل، الذي كان يعيش على المال الذي كسبه له والده، وشخصية جينجيه الأبله التي كانت تراه فيها زوجته، وذلك بعد أن وهب ماله كله لإنشاء مركز للمشردين، وأصبح يعيش فيه حياة واحد منهم في هذا المركز. البحث عن الذات يسهم عنوان الرواية على ما فيه من غرابة بوصفه عتبة أولى للقراءة، في التأثير في أفق توقع القارئ وتوجيه القراءة، لأنها تكثف ذلك المعنى الغريب لحياة بطل الرواية وشخصيته من خلال المنظور الفلسفي والوجودي الذي تقدمه له. وهكذا تخترق جملة الاستهلال حدث الرواية الرئيس عندما يجد بطل الرواية نفسه أمام حالة انقلاب كاملة على صعيد علاقته بجسده وحياته التي يعيشها، حيث تتلاحق الأحداث الدرامية بصورة تنقل العمل من بعده الفكري إلى تمثله سرديا، لا سيما ما يتعلق ببناء هذه الشخصية الغريبة وتحولاتها الدرامية العجيبة التي تسهم في تطور وتنامي السرد نحو النهاية. ينفتح وعي البطل/الراوي موسكاردا فجأة على حقيقة لم يكن يدركها، تتمثل في حالة الضياع التي بدأ يعيشها بين شخصيتين اثنتين، الأنا التي كونها الآخرون عنه، والأنا التي يعرفها هو. إن (الحقيقة التي أمثلها بالنسبة إليك تتمثل في الشكل الذي تمنحه أنت لي، ولكنها بالنسبة إليك لا بالنسبة إليّ، والحقيقة التي تمثلها أنت بالنسبة إليّ تتمثل في الشكل الذي أمنحه أنا لك، ولكنها حقيقية بالنسبة إليّ لا بالنسبة إليك). وهكذا ينقلب موسكاردا من حالة التصالح مع نفسه وجسده إلى حالة الشعور بالضياع حتى بالنسبة لرؤيته لنفسه (ومنذ ذلك اليوم توقدت رغبتي في البقاء وحيدا أقلّه لساعة واحدة. ولكنها في الحقيقة كانت حاجة أكثر منها رغبة، حاجة شرسة وملحة ومتحرقة حدّ أن حضور أو دنو زوجتي كانا يضرمان فيّ غضبا يبلغ بي مبلغ الخروج عن طوري). وجهك الذي لم يسبق لك أن عرفتوجهك الذي لم يسبق لك أن عرفت بنية السرد يلغي الكاتب المسافة بين الراوي/ البطل في هذه الرواية وبين القارئ عندما يستخدم ضمير المخاطب في سرد وقائع تجربته، التي تنتهي على نحو غريب، كما يستخدم في افتتاح كل فصل صيغا مختلفة في خطابه إلى القارئ مثل الحوار والوصف أو صيغ الاستفهام. تتخذ حياة البطل أبعادا جديدة تجعلها تنتقل من علاقته بذاته كما يراها هو ويراها الآخرون، إلى علاقته بالذوات الأخرى التي تحيط به كما أصبحت تبدو له عبر هذه الثنائية التي تتباين كثيرا، وفي المقدمة منها شخصية الأب، كما كانت تبدو له وللآخرين. وتبلغ هذه المفارقة بين الحقيقة وما نكوّنه من صور عن الآخرين مداها في علاقتنا مع شخصيات التاريخ، التي وصلتنا كما كان يراها معاصروها. ويبدأ التطور الدرامي لأفعال موسكاردا أو جينجيه كما تسميه زوجته وهو يحاول البحث عن ذاته، مع ذهابه إلى البنك الذي يملكه، وسرقته أوراق البيت الذي كان الشخص الذي يستأجره لا يدفع أجرته منذ سنوات من أجل طرده منه. هنا تحدث أول مواجهة بينه وبين شخصيات الحي التي تثور عليه بسبب هذا الفعل المشين، عندما قام برمي أغراضه تحت المطر لكن ما يقوم به بعد ذلك يجعل الجميع يرى فيه شخصا مجنونا عندما يهب المستأجر نفسه بيتا جديدا. ولكي يتحرر من شخصية المرابي التي يراه فيها الآخرون يقرر سحب أمواله من البنك، وأثناء حواره مع مدير البنك في منزله نجده يثور وتصل حدود ثورته إلى زوجته التي يدفعها بقسوة، فتغادر المنزل ليجد نفسه وحيدا في مواجهة مستجدات الوضع الذي ينشأ عن هذا الحدث الجديد. استعادة الذات تحاول صديقة زوجته آنا أن تنقذه مما يحاك له من قبل العاملين في البنك وزوجته والمستأجر الذي وهبه بيته، لكن هذه الشخصية تتنازعها شخصيتان؛ شخصية المرأة التي تشتهيه والأخرى التي تريد قتله، كما هو حال بطل الرواية الذي يعاني تجاهها من نفس الصراع. تصيب الرصاصة الأولى آنا، وفي المرة الثانية بطل الرواية فيضطر إلى البقاء في المنزل بسبب إصابته في قدمه. تتدخل الكنيسة لإنقاذه فتطرح عليه التبرع بماله كله لإنشاء ملجأ للمشردين على أن يعيش فيه كواحد مثلهم، فيوافق على المقترح وينتقل للعيش هناك وحيدا وقد تحرر من كل الشخصيات السابقة التي كان يراه فيها الآخرون وقد ازداد صفاء وسط طبيعة جميلة وسلام داخلي تام بعد أن استطاع تطابق صورته داخل نفسه وخارجها. يستبدل الكاتب خاتمة الرواية بلا خاتمة رغبة منه في تأكيده أن الحياة لا تعرف الخاتمة “أنا لم أعد في حاجة إلى هذا لأنني في كل هنيهة أموت وأولد من جديد، ومن دون ذكريات: حيّا ومكتملا لا داخل كينونتي بعد الآن، ولكن في كل شيء خارجها”.

مشاركة :