محمد ولد محمد سالم «التماوج» هو الشعار الذي اختاره بينالي الشارقة في دورته الثالثة عشرة، ليكون الفضاء الفكري لأنشطته الفنية ونقاشاته النظرية، وهو شعار محمل بالدلالة، يمكن مده في عدة اتجاهات، وتتبع مظاهره في عدة ميادين، وحتى لو اقتصرنا على الأصل اللغوي له، فإنه يبقى غنياً، إذ تحمل الكلمة في أصلها الأول معنىً بصرياً جميلاً وآسراً يصلح موضوعاً للفن، وتناولته الفنون البصرية على مر الزمان وهو «حركة الأمواج عندما تتلاقى التيارات وتتعانق الموجات لتندفع هادرة في اتجاه معين».لقد أسر فعل «التماوج» أعين الفنانين من رسامين ومصورين وموسيقيين وشعراء، وغيرهم، فحاولوا تأبيد تلك اللحظات الجميلة، وما يكتنفها من مشاعر ترتبط بالقوة والجمال، فحركة الأمواج صاعدة ونازلة، مستقيمة ومتعرجة، تتسم بنوع من التناسق والتناغم في الشكل والحركة والصوت، وإذا أضيفت إليها ألوان الماء الزرقاء ورغوته البيضاء، وانكسار أشعة الشمس الذهبية عليه تزداد اللوحة جمالا، ما يترك أثرا عميقا في نفس المتأمل فيه، وإذا ارتبط ذلك بالقوة العاتية للأمواج الهادرة، فإن المعنى يكون أعمق والتأثير يكون مضاعفا، وإذا تجاوزنا المعنى اللغوي إلى المعنى المجازي، فالتماوج هو فعل ثورة لأنه يقتلع كل ما يقف في وجهه، ويتجاوز كل العراقيل بقوته الذاتية، وهو فعل حرية لأنه انطلاقة نحو المستقبل، وبحث مستمر عن أفق جديد، فالأمواج في اندفاعها ترتاد الأراضي البكر، وتبشر بالنماء والعطاء الكثير، الذي يعم البشر بالخير الوفير، وعندما يقترب الموج من الشاطئ يضعف التماوج وتهدأ الأمواج، وتصل إلى الشاطئ فاترة لتغفو هناك، ولتلتحم بتربته النقية في عناق أشبه بعناق الأحبة بعد فراق طويل، وأشبه بولد يرتمي في حضن أمه بعد رحلة سفر طويلة ومضنية، أو بطل مظفر يعود بعد سلسلة طويلة من الانتصارات ليلقي بجسمه المتعب آمنا مطمئنا أنه سيأخذ أخيرا قسطا كافيا من الراحة.فعل «التماوج» أيضا هو فعل مشاركة، لا يقوم به فاعل واحد، حتى في البحر أو الماء عامة، يحدث التماوج باشتراك تيارات عدة، ومن هنا فإن فيه رمزية للتشارك والتفاعل، وفي عالم اليوم الذي ينحو نحو الفردانية، والاعتداد بالإثنيات الضيقة، والتفتت في بناه الاجتماعية والسياسية، وتشتد فيه نزعات العرقية وتتصاعد فيه الحركات اليمينية والتطرف بكل أشكاله، تحتاج الإنسانية إلى عمل مشترك، إلى أن تتعاون وتتكاتف، وتصب جهودها في اتجاه واحد من أجل عمل بنّاء، قادر على مواجهة تلك الآفات التفتتية، وهزيمتها، وقادر على أن يصنع للإنسانية مستقبلا واحدا مشتركا يجد فيه كل إنسان مكانا للعيش الكريم، ومن هنا فإن فكرة التماوج أيضا هي دعوة لهذا العمل المشترك، سواء على مستوى الفن والبحث الفني أو على مستوى الرؤى المستقبلية لحياة الناس، واستخلاص العبر من الماضي، ومن كل أشكال التواصل والتعايش والتلاقي الفكري والثقافي التي كانت سائدة في الماضي.لا تنتهي معاني «التماوج»، ولا تتوقف عند حد، وبالإضافة إلى أبعاده الفنية، وما يمكن أن تثيره من مشاريع لدى الفنانين على مختلف توجهاتهم، ومشاربهم الثقافية، الذين وجهت لهم دعوة لتقديم مشاريعهم، فقد حدد البينالي لهذا الموضوع أربع ثيمات، يجري تناولها من خلال بعض المشاريع الفنية، وكذلك من خلال لقاء مارس/آذار الذي يعقد فيما بين 10 و14 من الشهر المقبل، وهي ثيمات ترتبط من ناحية بالتماوج، ومن ناحية أخرى تدور عليها حياة الإنسان، وتبنى عليها أنساق ثقافية تتنوع بتنوع المجتمعات، والجغرافيا والوسط البيئي، فهي ضرورات معيشية، ومولدات ثقافية لا تنضب، وهذه الثيمات الأربع هي: الماء والأرض والمحاصيل والطهي، وهي كما نرى ثيمات ترتبط بالتماوج، أو بكلمة أدق بأصل التماوج الذي هو الماء، وستتم مقاربة هذه الموضوعات على عدة صعد، منها المقاربة الفنية الإبداعية، حيث ستقام مشاريع وأعمال فنية تقارب هذه الموضوعات، كما ستنظم في الشارقة ورش فنية تعليمية تتعلق بالبستنة والنباتات، واستكشاف الوسط الطبيعي، وما يزخر به من تنوع نباتي، ومصادر مائية. «يحيا استقلال المياه» من العلامات المهمة لبينالي الشارقة الثالث عشر الذي تشرف عليه هذا العام القيّمة كريستين طعمة المدير المؤسس لجمعية «أشكال ألوان» اللبنانية، أنه سوف يتوسع في الزمن، إذ ستتواصل فعالياته على مدى عام بدل شهر، كما أنه سوف يتوسع مكانيا، فبالإضافة إلى الشارقة التي هي المقر الدائم للبينالي سوف تدور فعاليات أخرى موازية لها في أربع مدن هي: إسطنبول وبيروت وداكار ورام الله، ما سيسمح بمقاربة الموضوع ضمن بيئات ثقافية واجتماعية متعددة، ومن أهم ما سيقدم خلال المهرجان تلك الورشة التي تنظم في جامعة الشيخ أنتا جوب في داكار بالسنغال، خلال يومي 8 و9 مارس، وهي بعنوان «يحيا استقلال المياه» والتي تعاين العلاقة بين المياه والمعتقد، محاولة أن تستجلي السياقات المختلفة للتقاليد الشعبية والروحية في نظرتها للماء، وكذلك للفكر العقلاني والفكر المعاصر في نظرتهما إليه، حيث شكّلت المياه لقرون عدة مصدر الحياة، ومنبع الرؤى الخيالية، السحرية والشعائرية، وموضوعا لا ينتهي للاستكشاف، وقد سمحت كل تلك الأبنية الثقافية المنبثقة من الماء، بدراسات غنية استكشفت فاعلية هذا العنصر الحيوي في صناعة المتخيل البشري، وفي هذا العصر الذي غيب فيه الماء في أنابيب وقنوات غير مرئية، وأصبحت تلك الفاعلية الحيوية غير محسوسة على الأقل لدى قطاعات واسعة من أبناء المدن الذين يتلقون الماء في عبوات معبأة ومحفوظة في بعناية، وكأنها لم تساهم يوما في عملية تماوج وتدفق الحياة، وفقد فيه الإنسان ذاكرته المائية، وإحساسه بأثر ذلك العنصر في تكوينه واستمراره في هذا الكون، في هذا العالم تصبح محاولة استعادة العلاقة الأمومية بين هذا العنصر الأساسي، وبين كل أشكال الحياة التي نحياها، ضرورية، ولن يكون ذلك إلا بالعودة إلى تلك العلاقة الفطرية بينهما، وإعادة اختراع الثقافة الفطرية التي أنتجتها البشرية بينما كانت في طور التشكل، بتحريرها والانسلاخ عنها على قدم المساواة. ومن هنا تنبع أهمية ورشة «يحيا استقلال المياه» التي ينظمها البينالي من كون المياه موضوعا واسعا يتجاوز صعود وسقوط الحضارات، إذ لا يمكن مقاربته على نحو كامل، كما أن الإلمام به بشمولية أمر عصي، ولهذا فإنه بلا نهاية، وهو «سائل» على المستويين الفيزيولوجي والفلسفي، ما يجعل من الصعوبة بمكان عقلنة فهم ثابت له أو ادعائه، لقد استهجنت البشرية إلى ما لا نهاية التفكير بالمياه، إلا أن ضرورات شديدة الإلحاح تتطلب في زمننا الراهن أن نعيد تشكيل هذه العلاقة، فمن المستحيل اليوم التفكير بالمياه من دون التفكير بالكوارث المقبلة، حيث يهدد القحط أكثر من مكان على سطح الأرض بينما تدمر الفيضانات الهائلة أجزاء أخرى.تجري مقاربة الورشة عبر محورين يركز اليوم الأول من الورشة على «المعتقدات والمعرفة»، ويسعى لاستجلاء الأثر النفسي للمياه على البشر في فترات مترامية من الزمن، ولن تقتصر نقاشات الورشة على ميدان واحد، بل ستنظر في علاقة الماء بالمعتقد، والعرافة والسحر، والعادات الناشئة من الممارسة اليومية، وطرق الحماية من فيضان الماء أو نضوبه، وغير ذلك من الأسئلة الثقافية المتصلة بموضوع المياه، وستتضمن الورشة مجموعة من عروض الأفلام والمحاضرات، إضافة إلى الحوار والنقاش بين المشاركين فيها لتحقيق مقاربة حميمة للموضوعات التي تعزز العلاقة مع موضوع المياه، وسيشارك في هذه الورشة عدد من المتخصصين والمشتغلين في حقول إبداعية متعددة مثل السينما والعمارة والصورة والكتابة وهم: الشاعرة رشيدة مداني (المغرب)، المهندسة المعمارية سامية راب كريشنار(باكستان)، الفنان مارسيل ديناهت (فرنسا)، الأنثروبولوجية إبراهيما سو (السنغال)، المهندسة المعمارية ياسمين تركي (الجزائر)، الفنان والهيدرولوجي كريستوف كيلر (ألمانيا).المحور الثاني من الورشة سيأتي تحت عنوان «الحياة اليومية للسيطرة السياسية على السيولة» سيستقرئ موضوع المياه في القرن العشرين في سياق يمتد من مرحلة الاستعمار إلى يومنا هذا، سيتناول النقاش صيغ المقاربات البراغماتية للمياه وموضوعات على اتصال بمتطلبات الحاضر، فالمياه اليوم وإن كانت في الماضي مصدر «الحياة» فإنها اليوم وبفعل بعض السياسات البراغماتية أصبحت في أجزاء كثيرة من إفريقيا مصدراً للموت، ما يجعل نقاش تلك السياسات، والأنشطة المدمرة معيناً على تطوير فهم جديد لمضامين استقلالها، وما يمكن أن يجلبه ذلك الاستقلال من سلم وأمن للمجتمعات المتضررة من أشكال الاستغلال السيئ للسياسات، لنفكر مثلا بالملايين الذين يموتون بسبب المجاعات المرتبطة بنضوب الماء، أو بتحويل مجراه أو بسيطرة قوى معادية عليه، أو بالغرق في فيضانات سببها انهيار سدود مائية وضعت باستعجال، وبأقل أثمان وبعيدا عن أية معايير فنية وهندسية نظراً لأن واضعيها لم ينظروا إلى المستقبل، وإنما إلى ما سيستفيدونه من الصفقة، ولنفكر كذلك بآلاف المهاجرين الأفارقة الذين يغرقون في البحار بحثا عن طرق للعالم الآخر وأملا في حياة تنقذهم من البؤس والقمع والجور التي يعيشونها بسبب السياسات الجائرة والدكتاتورية لأنظمة الحكم في بلدانهم، والأمثلة على هذه العلاقة بين المياه والموت اليوم كثيرة، ومن شأن نقاشها والتفكير فيها أن يطور فهمنا للعلاقة الوثيقة بين المياه والحياة الاجتماعية والسياسية للناس، عبر تطوير زوايا الرؤية، وتوسيعها لتشمل الإنتاج المعرفي، والسياسات، ورأس المال، والهجرة وتأمل كيف لهذا العنصر «المياه» أن يسيطر على سلوك الناس ومشاعرهم وردود أفعالهم، إضافة إلى سيطرته على المعالم الملموسة للحياة اليومية حتى وإن كانت المياه غير متواجدة في مجال الرؤية، ومن شأن تلك المقاربات أن تطور فهمنا للعلاقة الوثيقة بين المياه والحياة الاجتماعية والسياسية للناس، ما يتيح التفكير بمضامين وسبل استقلالها، لأن في ذلك الاستقلال حياة ملايين البشر وحريتهم، وفوزهم بالعيش الكريم.يتحدث في الورشة عدد من المتخصصين والفنانين المهتمين بموضوعات ذات علاقة بالمياه، ومن المتحدثين الفنان السينغالي كيمي باسيني، وعلي حيدر وزير البيئة والثروة السمكية الأسبق في السنغال اللذين يقدمان قراءة تاريخية وسياسية واجتماعية وقانونية لأوضاع المياه في مقاطعات بيول في شمال السنغال، كما سيقدم الفنانان والناشطان تشارلز هيلر من سويسرا ولورنزو بيزاني من إيطاليا من مجموعة «عين على المتوسط» طرقاً جديدة موسعة للتصورات المتعلقة بالبحر الأبيض المتوسط، ومن ألمانيا يقدم هيتو ستيلر فيلماً يقارب موضوع المياه عبر أشكال من الإنتاجية الإنسانية في ظل الرأسمالية النيوليبرالية.
مشاركة :