الصورة الفوتوغرافية كائنا حيّا مستعصيا عن الزوال، يربط الماضي بالحاضر ويصل بين الأحياء والأموات.العرب يمينة حمدي [نُشر في 2017/02/28، العدد: 10557، ص(21)]شاهد وحيد ينقل الحقيقة دون تلفيق وثّق ألبوم الصور حقبا تاريخية مهمّة من حياة الأسر ومثل جزءا هاما من أعمار أفرادها الذين تقاسموا من خلاله ذكرياتهم الجميلة، وكان على امتداد عقود مضت حلقة وصل بينهم وبين أبنائهم وأحفادهم، فعكس انفعالاتهم العاطفية وميولهم وأذواقهم وثقافاتهم، إلا أنه بدأ يفقد بريقه في ظل ثورة الهواتف الذكية المزوّدة بكاميرات عالية الدقة، والتي أتاحت للناس تصوير كل لحظات الحياة باستمرار، ومن دون قلق بشأن النيغاتيف (شريط الفيلم بعد التصوير والتحميض) وتعرضه للخدش والتلف أو حتى فقدانه، مما يحرمهم من رؤية الصورة. الآن لم تعد هناك كاميرات تعمل بفيلم يدور حولها، ولم يعد الناس يعانون من نفاد الفيلم أثناء تصوير اللحظات والأوقات الهامة. ولكن إذا كانت الكاميرات الرقمية مريحة للغاية، فإنها في الغالب تساعد الناس على تكديس الصور من دون عيش اللحظات الجميلة وتوثيقها في الذاكرة قبل تصويرها، مما يشتت أذهانهم كلما رجعوا إليها، ويحرمهم من استذكار جميع التفاصيل، ولا يتيح لهم فرصة التفاعل الحسي معها، كما هو الشأن بالنسبة إلى صور الألبوم التي فيها استمتاع أكبر بكل لحظة وما فيها. هناك أكثر من سبب وجيه يجعل الخبراء يدعون الآباء إلى توثيق اللحظات السعيدة، التي يقضونها مع أبنائهم في فسح المرح والتنزه والرحلات الترفيهية بصور حقيقية وليست افتراضية، نظرا لأن صور الألبوم، تدون جانبا مهمّا من حياة الطفل، وتمكنه من العودة بذاكرته إلى الوراء كلما كبر، فتتاح له الفرصة للاستمتاع بتسلسل جيد لمراحل العمر. ورؤية مراحل العمر المختلفة لها إيجابياتها، مثل تذكر أفراد الأسرة البعيدين أو الذين لم يعودوا على قيد الحياة، وذلك عبر إنشاء ألبوم صور يسهلُ الوصول إليه لاسترجاع الذكريات، على عكس خيار الأرشفة الرقمية على مواقع التواصل الاجتماعي، التي يمكن أن تتعرض للقرصنة في أي لحظة فتضيع جميع الذكريات.الشاعر العراقي جليل خزعل: أجد الحياة الحقيقية في الصور الملتقطة بالأبيض والأسود كما تساعد المحافظة على الصور القديمة في الألبوم على أن تتوارثها الأجيال فتصبح امتدادا لهويتها الجماعية. وكتبت الصحافية اللبنانية جوسلين إيليا متهكمة على صور اليوم التي تلتقط بواسطة الهواتف بمناسبة أو دون مناسبة بالقول “لا تحمل الهاتف إلا والعصا معه”، متأسية على الأيام الجميلة التي كان يصطحبهم فيها والدها مع أشقائها لالتقاط صورة جماعية بأجمل ملابسهم في أيام الأعياد. لكن كلام جوسلين لن يعيد الزمن إلى الوراء، ولن يوقف الموجة المتنامية من المولعين بالصور الرقمية، فالطالب المصري ممدوح عزت قال في تصريح لـ”العرب” إنه غير مولع بالصور القديمة المركونة في الدولاب، والتي على حد تعبيره، اهترأت من عامل الزمن والرطوبة، ولكنه مفتون بالتقاط صور السيلفي ومشاركتها على الإنترنت لأنها بالنسبة إليه “ستظل خالدة رغم كل العوامل”. وبيّنت دراسة مسحية أن الهاتف الذكي أصبح يحظى بشعبية أكبر من الكاميرات الرقمية، حيث يستخدم 60 بالمئة من البالغين و89 بالمئة من الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و24 سنة هواتفهم الذكية للتصوير. وأكد الطالب التونسي طه العيوني أنه يستمتع بالتقاط الصور وأرشفتها، مشيرا في تصريحه لـ”العرب” إلى أنه يفضل الأرشفة الإلكترونية على هاتفه لأنها من وجهة نظره تتيح له المحافظة على الصور بشكل آمن، وتمكنه من الوصول إليها كلما أراد بطريقة سهلة وفعالة، وهذه الوسيلة تعتبر بالنسبة إليه أفضل بكثير من وضع الصور في الألبوم وتعرضها للتلف. ويبدو أن مقولة “الصورة تغني عن ألف كلمة” لم تغن الروائي والشاعر التونسي سامي نصر عن التعبير بالمفردات، فهو كما قال لـ”العرب” لا يملك ألبوم صور وحتى وقت قريب لم تكن لديه صورة على فيسبوك، والصورة الوحيدة التي التقطها منذ سنوات يستعملها باستمرار. وفسر عدم اهتمامه بالصور قائلا “لا أعرف لماذا علاقتي بالصور ليست على ما يرام، لدي صور عائلية لكنها تظل داخل كتاب الصور، وقد بدأت منذ فترة أهتم بالصور ولكن باحتشام. على الرغم من أن الصور ضرورية بالنسبة إلى الكاتب ومن المهم استعمالها ليتعرف عليه القراء”. وأضاف “في الحقيقة الصور تبقى لحظات أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع لأنها تثبت ما هو زائل، وتشدنا إلى لحظات مرت وانتهت، وهي كثيرا ما تشدنا إلى أشياء انتهت فعلا من حياتنا مثل الشباب والفرح والسعادة والأمل”. أما الصحافي التونسي منير المنستيري فرغم إيمانه الشديد بمقولة “من لا ماضي له فلا حاضر له”، فإنه مع ذلك لا يحتفظ سوى بعدد قليل من الصور الورقية، وفق ما صرح به لـ”العرب”. وبرر هذا التناقض قائلا “كنت في الماضي لا أولي مثل هذه الأشياء أي أهمية، ولكن بعد ميلاد أبنائي أصبحت أفكر في أن أترك لهم ماضيا يعودون إليه لاسترجاع ذكريات طبعت حياتهم بلحظاتها الجميلة والمفرحة وبلحظاتها الحزينة..”.الشاعر التونسي سامي نصر: الصور تبقى لحظات أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع وأضاف “أعتقد أنه من حق الأحفاد استرجاع ذكريات الأشخاص الذين أثروا في مجرى حياتهم وأشرفوا على تربيتهم وتقاسموا معهم كامل تفاصيل حياتهم”. ربما انتهى استخدام أفلام التصوير التقليدية إلى الأبد منذ أن اخترع ستيف ساسون، المهندس في شركة كوداك للتصوير، أول نموذج لكاميرا رقمية في العالم، ولكن ذلك لم يمثل نقطة فارقة في علاقة شاعر الطفولة العراقي جليل خزعل بألبوم صور العائلة، فقال في تصريح لـ”العرب” معبّرا عن تعلقه الشديد بها “صور العائلة حياة موازية، لا تقل أهمية عن الحياة الحقيقية التي نعيشها، بل أجد في أحيان كثيرة الحياة الحقيقة في تلك الصور المحفوظة في الألبوم، وخاصة تلك الملتقطة في عصر الأسود والأبيض”. وأضاف “أعتقد أن حياتنا الأخرى ما هي إلا فقاعة كما كان يقول المصورون في زماننا عندما يغروننا بالتقاط صورة (الحياة فقاعة فصوّرها قبل أن تنفجر)، عشقت الصور منذ طفولتي وكان لي عدد كبير منها، ولن أنسى أبدا اليوم الذي وجدت ابن عمي الأَصغر مني سنا، والذي كان يقلدني في كل شيء قد سطا على ألبومي وسرق الكثير من صوره النادرة. وختم شاعر الطفولة قائلا “الصور الرقمية لا تغني عن ألبوم العائلة الذي أعده بمثابة الكنز، وقد حرصت على حمله معي عندما هجرت بيتي في سنوات الاحتقان الطائفي وتحديدا في عام 2006، لم أحمل معي وقتها سوى حقيبة يدوية صغيرة فيها أوراقي الرسمية”. وربما طوى الكثيرون عهد الألبوم، لكن مهما يكن من أمر ستبقى الصورة الفوتوغرافية كائنا حيّا مستعصيا عن الزوال وأصدق لغة في التعبير، وقد يعيد الحنين كبرى الشركات الرقمية وأفضل المبتكرين إلى تطوير تقنية جديدة تستعيد باللونين الأبيض والأسود كصورة مبتكرة تجمع بين الماضي بالحاضر.
مشاركة :