بيت العائلة الكبير يضيق على أصحابهالأديب اللبناني جبران خليل جبران محق بقوله “أولادكم ليسوا أولادكم إنهم أولاد وبنات الحياة المشتاقة لنفسها”، فمرارة خيبة الأمل في الأبناء وفقدانهم وقت قلة الحيلة، أصبحا من تحصيل الحاصل في الأسر العربية.العرب يمينة حمدي [نُشر في 2017/08/01، العدد: 10709، ص(21)]طاولة الطعام لا تحلو إلا باللمة العائلية لا يبدي معظم الشبان المتزوجين تحمسا كبيرا للسكن مع والديهم رغم الأعباء المالية والاقتصادية التي يواجهونها في حياتهم بسبب غلاء المعيشة وارتفاع أسعار إيجار المساكن، خوفا من المشاكل التي قد تطرأ بين أمهاتهم وزوجاتهم. واختفى تدريجيا نموذج بيت العائلة الكبير الذي كان قبل عقود من الزمن يتسع للآباء وأبنائهم والأحفاد وأبنائهم، وقد يسكنه العشرات من الأفراد في بعض القرى والأرياف رغم صغر مساحته أحيانا. وبدلا من السكن مع العائلة تحت سقف واحد خصص البعض من الأبناء عطلة نهاية الأسبوع لإحياء اللمة العائلية واسترجاع ذكريات الطفولة، وإتاحة الفرصة للعائلات المتصاهرة للالتقاء وتوطيد أواصر القرابة والود بينهم، غير أن هذا التقليد بدأ يختفي أيضا من العديد من الأوساط الأسرية، وأصبح أغلب الآباء المسنين يعيشون بمفردهم، ولا يجدون من يساعدهم على مجابهة المشاكل الصحية لمرحلة أرذل العمر. ورغم أن هذه اللقاءات قد تتحول في بعض الأحيان إلى مواعيد للعتاب والجدل والاختلاف وحتى الشجار، إلا أن علماء النفس يرون أن منافع اللقاء أكثر من مضاره، نظرا لأن العلاقات العائلية والاجتماعية أثمن ما يبقى للإنسان في مراحل عمره الأخيرة. ويرى أستاذ علم النفس التربوي العراقي سليمان شيخو أن الطموح اللا محدود في العصر الحالي قد عوّض القناعة والبساطة التي كانت سائدة في الماضي، وأن أغلب الشباب أصبح يتتطلع دائما إلى الكثير ولا يرضى بالقليل في جميع أمور الحياة. وقال شيخو لـ“العرب”، “في الماضي كانت هناك قناعة بما قسمه الله، بالإضافة إلى أن صلة الرحم قوية ومبجلة من الجميع، وكبير العائلة وهو في الغالب يكون بيده الحل والربط لجميع أمور الأسرة الموسعة، فلا أحد يكسر كلمته أو يخرج عن طاعته وهو الذي يتدبر شؤون الجميع”. نادية معتوق قايدي: بيت العائلة فقد كيانه وتفرق الأهل والأقرباء بسبب كثرة الالتزامات وأضاف “لقد أدى التسامح في الماضي إلى إدامة الحياة بين الأسر المتعددة التي يجمعها سقف واحد، ولم تكن النزعة الأنانية مسيطرة عليهم، أما في الوقت الحاضر فالجميع يحلم بالبيت المستقل وبالعيش الأفضل وبالدخل المادي المرتفع”. وأوضح “مع تغيّر الحياة بشكل دائم، وتبدلها، ودخول معطيات جديدة وخروج أخرى، تغيّرت العادات والتقاليد بشكل مستمر، وكل ذلك بسبب الغزو الثقافي الأجنبي للبلدان العربية عن طريق الفضائيات والأجهزة الذكية والإنترنت، مما أثّر على كيان الأسرة العربية وعلى عقلية المرأة التي لم تعد ربة بيت فحسب، بل موظفة لديها استقلالية مادية وقادرة على إعالة أسرتها ومساعدة زوجها في بناء حياة مستقلة بعيدا عن أهله”. وختم شيخو بقوله “الجيل الجديد لا يرغب في أن يتدخل الجيل القديم في حياته ويعتبره غير قادر على فهم الحياة العصرية، والجيل القديم يعتبر الجيل الجديد متهورا وغير قادر على تحمّل المسؤولية، ولكن هذا لا يجب أن يدفعهم إلى القطيعة، لأن الانسجام بين الأقارب والشعور بدفء العلاقات الاجتماعية والقيم العائلية، أهم وصفة للسعادة وراحة البال”. ولا يرحب غالبية الأشخاص الذين سألتهم “العرب” بفكرة السكن في بيت العائلة الكبير، بسبب خوفهم من المواقف القمعية التي قد تحرمهم من حرية القرار والتصرف في شؤون عائلاتهم. وقالت التونسية سامية ماني العيوني (مدرّسة) “من حسن حظي أنني أقطن بعيدا عن بيت العائلة، فاجتماعاتنا فيه تبدأ بالترحاب وتنتهي بالخصومات، ولذلك أفضّل أن أكون سيدة بيتي أطبخ ما أشاء وأقول ما أشاء، فلا أحد في بيتي يعد علي خطواتي أو يملي علي كيف أتصرف مع زوجي وأبنائي”. وأضافت العيوني لـ”العرب” موضحة “في بيت العائلة الجميع يريد أن يتدخل في حياتك، وفي جميع الحالات الكنة مطالبة بأن تحرس أفعالها وأقوالها حتى لا يغضب منها هذا أو ذاك، ولكن هيهات أن يرضوا عنها، لأن إرضاءهم غاية لا تدرك.. فأحيانا يتحوّل بيت العائلة إلى ما يشبه الركح ولكن لمسرح حقيقي، ولذلك أحبذ بيتي ثم حريتي”. فيما لا يبدي الصحافي الفلسطيني سامر عواد أي تحمس للسكن مع والديه عند زواجه مسقبلا، معللا قراره بما عايشه من خلال تجربة أشقائه الذين تزوجوا وسكنوا في بيت عائلته. وقال عواد “العيش في بيت مستقل عن العائلة الأولى أفضل حل للمحافظة على الود والاحترام بين الآباء والأبناء المتزوجين ولغلق باب المشاكل الذي قد ينغص حياة الجميع”.سامر عواد: العيش في بيت مستقل عن العائلة أفضل حل لاستقرار الأسرة وأوضح “أشقائي الذين لم يسكنوا معنا مشاكلهم قليلة جدا بالمقارنة مع أشقائي الذين عاشوا وزوجاتهم معنا في نفس البيت، أعتقد أن لكل أسرة خصوصياتها، ولا يجب أن يعرف الأهل كل صغيرة وكبيرة عن الزوجين، وهذا هو أهم عامل لنجاح العلاقات الزوجية”. وتبرز هنا فجوة كبيرة بين جيل الآباء المتمسك بقيمه القديمة التي نشأ عليها ويريد أن يورثها لنسله، وجيل الشباب الذي عاش في ظل انفتاح اجتماعي وثقافي واسع، وبالتالي يرفض الانصياع لكل ما هو موروث، ويريد أن يتخذ زمام أمور حياته بنفسه. ويرى التونسي خالد السالمي ( مرشد تربوي) أن الاستقرار في الحياة الزوجية، لا يمكن أن يتحقق ولا بأي شكل من الأشكال، إذا تم الجمع بين الحماة والكنة في بيت واحد، فهما ستجدان ألف تعلة لإثارة المشاكل. وأضاف السالمي “أغلب الزوجات اليوم يحبذن الاستقلال بحياتهن بعيدا عن حمواتهن لاعتقادهن أنهن سيتدخلن في حياتهن الخاصة ويملين آراءهن على أبنائهن، بالإضافة إلى أن الزوج سيصبح مشتتا وعاجزا عن إرضاء أمه وحماته في نفس الوقت، مما سيزيد من وتيرة المشاكل بينه وبين شريكة حياته، وقد يدفعه ذلك إلى الطلاق، ولذلك فمن الأفضل الاستقلالية عن البيت الكبير، حتى يكون الاستقرار من نصيب الجميع”. إلا أن البعض يحدوه حنين كبير إلى بيت العائلة المزدحم والضاج بالآباء والأبناء والأزواج والزوجات والأحفاد، ويتمنى لو يعود الزمن إلى الوراء لتعود اللمة واللحمة العائلية اللتان أصبحتا عملة نادرة في عصرنا الذي طغت عليه المادة. وقالت نادية معتوق قايدي (ربة بيت) “بيت العائلة يعتبر بالنسبة إليّ أهم مكان لتوطيد العلاقات بين الأهل والحفاظ على الروابط الأسرية، لذلك كنت أتمنى العيش مع عائلة زوجي (حماتي وحمايا)”. وأضافت قايدي “لقد فقد بيت العائلة كيانه وتفرّق الأهل والأقرباء بسبب كثرة الالتزامات التي تضطرهم للسكن بمكان آخر، بالإضافة إلى أن المرأة المتزوجة أصبحت تفضّل أن تبني بيتها الخاص، وتكتفي بزيارات المجاملة إلى بيت العائلة”.
مشاركة :