جاورتني البومة ولم تصبني اللعنة بقلم: يمينة حمدي

  • 8/4/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يسكن البوم في لندن بالأماكن المهجورة، بل بالحدائق العمومية المحاذية للمنازل ولا يكف عن النعيق، وخاصة في المساء، ومع ذلك لم أر من أزعجه هذا الأمر، أو سكنته الهواجس.العرب يمينة حمدي [نُشر في 2017/08/04، العدد: 10712، ص(21)] منذ طفولتي وأنا أحفظ على ظهر قلب أن صوت البوم ينذر بالشؤم، وكنت إذا ما رأيت بوما أرميه بأي شيء حتى يذهب بعيدا، ولا أقترب منه أو أنظر إليه خوفا من الأذى الذي يمكن أن يصيبني جراء ذلك. وطالما نسج الكثيرون مثلي حكايات عديدة حول هذا الطائر، منها أنه يجلب اللعنة، وأن صوته ينذر بالدمار والخراب، ويحمّلونه الكثير من الذنوب التي لا حول له ولا قوة عليها، إلى درجة أن البعض يتعوّذ بالله من رؤيته. لم أكن أدرك وقتها أن بعضا مما تعلمته من آبائي وأجدادي ليس سوى افتراضات وهمية ولا أساس لها من الصحة، بل هي أشبه بقصص الجاحظ التي سردها عن طريق أسلوب العنعنة، ليكشف من خلالها كيف تنتقل بعض الروايات من فم هذا إلى أذن ذاك، لتصبح في النهاية مجرد تلفيقات أو خرافات، لا يقبلها العقل ولا يقرّها العلم. عندما انتقلت للعيش في لندن وجدت أن الناس هنا مختلفون في تعاملهم مع طيور البوم والغربان، فلا أحد يبغضها أو يرجمها بالحجر أو يعلق عليها توجساته من المستقبل وخوفه من الموت، بل إن البعض منهم ينظر إليها بإعجاب ويحمل إليها الأطعمة، ويسرد عنها الكثير من الحكايات الطريفة وهناك من بين أفضل المطاعم في لندن مطعم أطلق عليه صاحبه اسم “بوف” أي البومة. لا يسكن البوم في لندن بالأماكن المهجورة، بل بالحدائق العمومية المحاذية للمنازل ولا يكف عن النعيق، وخاصة في المساء، ومع ذلك لم أر من أزعجه هذا الأمر، أو سكنته الهواجس مما قد سيحل به من لعنة بسبب مجاورة البوم لمنزله، بل على العكس، فالناس مستأنسون بطائر البوم رغم أن وجهه ليس فاتن الحسن وصوته ليس عذبا. صوت البوم ليس سوى خارطة توجيهية يعتمدها هذا الطائر للظفر بفريسته، فجهاز التصفية والتحليل في دماغه، هو الذي يقوم بمضاعفة الإشارات الصوتية لإعطائه توجيها أكثر دقة لموقع الفريسة. ومثل هذه الميزة الفريدة تجعل فرص افتراس البوم لصيده المقبل أو وجبته القادمة، أدقّ تصويبا، غير أنها في مجتمعاتنا العربية لها تفسير آخر، يغلب عليه التشاؤم، وعدم اعتماد العقل في ما يساق إلينا من معتقدات نتأثر بها، وتصبح في غالب الأحيان من المسلمات. وأريد أن أعرج في مقالي هذا على ظاهرة أخرى لم أعهدها في بلاد الرافدين، تنمّ عمّا وصل إليه المجتمع العراقي من تخلف مريع، إلى حدّ إيذاء النفس بشق الرؤوس بالسيوف وضرب الظهور بسلاسل الحديد في تسويغ لمعاقبة الذات بشأن قصة تاريخية ملتبسة، والمريع في ذلك أن الأطفال يقلدون هذه الأفعال الشنيعة في إيذاء النفس بمباركة آبائهم. والمشكلة الأكبر تكمن في أن الصغار يكونون دائما ضحايا لمعتقدات الكبار، فهم يتأثرون كثيرا بالأفكار المحيطة بهم في بيئتهم، وعندما يفكر من حولهم تفكيرا ساذجا ومحدودا، فإن الأطفال سيغدون مثله عاجلا أو آجلا، فشخصية الإنسان تتكون في مراحل عمره الأولى وليس من السهل تغييرها أو إعادة تعديلها عند الكبر. أين العقل الذي اصطفانا به الله إذا كان الإنسان غير قادر على التفكير به لمعرفة الصواب من الخطأ، أين العقل الذي يفترض أن بني البشر يتميزون به عن الحيوانات، إذا كان الإنسان يهوي على رأسه بمعول كما يهوي على جذع الشجرة أو يدفع طفلا لا يفقه من الدنيا شيئا إلى أن يتعلم تقاليد بالية، ويساهم في تسطيح تفكيره، فيصبح عند كبره عاجزا عن التخلص من الخرافات والخزعبلات التي شحن بها عقله في الصغر. ألا ينطبق على أغلب ما يسود في مجتمعاتنا من تقاليد وخرافات بالية قول أبي الطيب المتنبي “ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ/ وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ”. المؤسف أن مجتمعاتنا العربية تزحف نحو الجهل، في حين تتسابق المجتمعات الغربية نحو العلم والتقدم وتحقق يوميا أشواطا من التفوق العلمي والازدهار في العديد من المجالات. صحافية تونسية مقيمة في لندنيمينة حمدي

مشاركة :