المفارقة الطريفة أنه كلّما زاد الرئيس الأميركي من قصفه الكلامي وتغريداته الساخطة في حق الصحف والمؤسسات الإعلامية زادت أسهمها وأرباحها وشعبيتها. العرب طاهر علوان [نُشر في 2017/02/28، العدد: 10557، ص(18)] وكأنّه زمن الاكتشافات الكبرى وكأنّ على الجمهور الذي يُعَدّ بالملايين أن يحذر أشدّ الحذر من (خطر) الصحافة والصحافيين! كأنّه عصر جديد تغيّرت فيه مهمة الإعلام والصحافة كليّا على افتراض أنها لم تكن جديرة بتلك الهالة من التقدير التي تستحقها من فرط شقائها ومهامها الجسام! وكأنّ على مؤسسات الصحافة أن تنسى أو تتناسى تضحياتها من الصحافيين الذين قضوا إما قتلا وإما تحت التعذيب وإما بالاختطاف وإما أثناء تغطية الحروب والصراعات! على وقع هذا التشكيك الذي عصف فجأة بالمشهد سنستعيد مقولة الصحافية الكبيرة هيلين توماس، “إن مهمتنا كصحافيين هي البحث عن الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة وأن نمارس ضغوطا متواصلة وبلا هوادة على القادة والسياسيين حتى يجيبوا عن تساؤلاتنا وتساؤلات الرأي العام”. “الحقيقة” و”الأجوبة” هما دستور العمل الصحافي، فكيف صار عمل الصحافة هو الخبث ولا شيء سوى الخبث؟ تلك تغريدات وتصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في حق كبريات المؤسسات الصحافية والإعلامية الأميركية، لا تصدّقوهم.. لا تصدّقوهم أبدا.. إنهم خبثاء ولا ينقلون الحقيقة.. إنهم ليسوا أعدائي بل أعداء الشعب الأميركي! تلك هي صرخات الرئيس في حق صحافة وصحافيي بلاده، فإذا كان الصحافي والمؤسسة الصحافية والإعلامية من الخبثاء والأعداء، فلا شك أنك سوف تخوض ضدهما معركة لا هوادة فيها حتى تنتصر أو ينتصرا هما عليك. المفارقة الطريفة أنه كلّما زاد الرئيس من قصفه الكلامي وتغريداته الساخطة في حق تلك الصحف والمؤسسات الإعلامية زادت أسهمها وأرباحها وشعبيتها، فأيّ مفارقة هذه؟ وبعد هذا كيف سيمضي الرئيس سنوات حكمه الأربع الأولى وربما تتلوها أربع سنوات أخرى؟ هل سيمضيها وهو في خصومة وصراع مع الصحافة ووسائل الإعلام حتى تدبّج مقالات تشبه تلك التي كان يدبّجها صحافيو الأنظمة الشمولية من قبيل الرئيس القائد والرمز التاريخي العظيم والبطل الوطني الغيور؟ ومتى كانت أميركا مرتعا لأفكار (خبيثة) كهذه؟ ولمَ يقع اللوم على الأنظمة الشمولية التي سحقها الزمن إذا كانت أميركا تكاد تنتقل في علاقتها بالصحافة إلى أسوأ خصال الأنظمة الشمولية: التدخل في العمل الصحافي والإعلامي، التشكيك في ذمم الصحافيين والإعلاميين، التعامل الفوقي والاستعلائي معهم، خلق عداوة مفتعلة بين المؤسسة الإعلامية وبين الشعب. لا شكّ أنّ ما هو أكثر غرائبيّة أن يأتي يوم وتصدر أميركا تشريعات تلاحق فيها الصحافيين وتكمم أفواههم وتحدّ من الحريات الصحافية وتجعلها أسيرة بيانات الرئيس والناطق باسم البيت الأبيض الذي سيكون ساعتها مجرد وزارة إعلام في أي نظام شمولي لا يفهم الصحافة إلا على أساس أنها ترسيخ لأيديولوجيا الحاكم/ الرئيس المنزّه من النقد والسوء والخطأ. ولا شكّ أنها بداية غير سعيدة لكون الخباثة وسوء النية والعداء تلصق بالصحافي ومؤسسّته وتصبح مفاهيم البحث عن الحقيقة وفرض الأسئلة والبحث عن إجابات صحيحة من المهام المؤجلة لأن الصحافيين سوف ينشغلون ببراءة الذمة، ولسان حالهم يقول “إنّنا مجرد صحافيين طيّبين ولسنا خبثاء يا فخامة الرئيس، فاصفح عنا ونعدك بألا نفعلها ثانية!”. كاتب من العراقطاهر علوان
مشاركة :