تشويه الليبرالية.. تناقضات في منظومة الهجاء الصحوي - مـحـمـد بن علي الـمـحـمـود

  • 4/24/2014
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

يعتمد التشويه الصحوي للتيار الليبرالي على منظومة هجائية زاخرة بالتناقضات التي تصل حد العبث، بل وربما حد العبث الساخر. ونحن في المقالين السابقين لاحظنا أن أهم تناقض عبثي يمس منهجية الكتاب الذي هو موضوع بحثنا (= الليبرالية في السعودية)، يكمن في التبجح بالموضوعية والحياد والمنهجية...إلخ مقومات البحث العلمي التي تختال طولاً وعرضاً على امتداد صفحات هذا الكتاب، وذلك في الوقت الذي يكشف فيه، وعلى امتداد صفحاته أيضاً، عن توجهه الاصطفافي الاحترابي المضاد. إن هذا هو أهم تناقض في تصوري؛ وذلك لأنه ليس تناقضاً جزئياً ولا عابراً ولا معلوماتياً، وإنما هو تناقض منهجي يخترق الكتاب من أوله إلى آخره، في مقاطع نصوصية كثيرة جداً. وطبعاً، لن تدرك حجم هذا التناقض، ولا مستوى عبثية هذا التناقض، ولا سقوط الادعاء العلمي الذي يستلزم الموضوعية ضرورة؛ حتى تستحضر إبان قراءتك لتلك النصوص/ الشواهد هذا الادعاء العلمي العريض. ومع هذا فليس هذا هو التناقض الوحيد، بل تظهر أهم مظاهر التناقض التي تسم هذا الكتاب العبثي وتكاد تخرجه من مصطلح: (كتاب) في تلك الفقرات التي تتناول تعريف الليبرالية، أو شرح المفاهيم الليبرالية في محاولة للوصول إلى تصور عام. دائماً ما يجنح مؤلفو الكتاب إلى تعريف الليبرالية بالحرية المطلقة، دائماً ما يؤكدون على هذا الإطلاق فيما يخص الحرية الليبرالية، كما أوردوا في ص42:" تتبنى الليبرالية الحرية كحقيقة مطلقة" . ومع هذا تضطرهم النقولات التي يوردونها كشواهد نصوصية صادرة عن رموز الليبرالية إلى ذكر كثير من القيود على هذه الحرية (المطلقة!) صراحة أو ضمناً. كما أن التجارب الليبرالية الحيّة، والمتمثلة في واقع دول الغرب، تؤكد حتمية تقييد الحرية، بل إن حجم القوانين المنظمة للحرية في الغرب هي أكثر بكثير من القوانين القمعية التي تحكم حياة مواطني دول العالم الثالث/ النامي/ النائم. لا يملّ مؤلفو الكتاب من تكرار هذه الفكرة المغلوطة، ففي ص 47 ينقلون عن أحد المتطرفين قوله في تعريف الليبرالية:"الفكر الليبرالي يسعى إلى أن يفعل الفرد ويقول بلا حدّ ولا ضابط...إلخ"، ثم يقول: "ولذا لا يهتم العقل الليبرالي بأفعال غيره لأنها لا تعنيه، وهذا نقص في إدراك لوازم الأفعال". ويشرحون الليبرالية ص12 بقولهم:"والليبرالية مذهب فكري يركز على الحرية الفردية بكل أبعادها، في الجوانب السلوكية والفكرية، ويرى وجوب احترم استقلالية الفرد، ويعتقد أن الوظيفة الأساسية للدولة هي حماية حريات المواطنين"، وينقلون ص13 عن أحد ألد أعداء الليبرالية قوله في رسالة علمية !!! عن الليبرالية : " فهي في أحيان كثيرة تعني ’’التحرّر المطلق’’ من كل القيود مما يجعلها مجالاً للفوضى". ويكررون هذا النص بحروفه وكلماته ص52 دون إشارة إلا اقتباسه من الرسالة العلمية التي أشاروا إليها في هامش ص13. هذا التأكيد المتكرر على أن الليبرالية تعني (التحرر المطلق) يعرفون كذبهم فيه كما يعرفون آباءهم، ولكنهم يريدون من خلاله الوصول إلى نقطة حساسة تستفزّ الواقع المحلي بكل مكوناته، إنهم يريدون الوصول إلى أن الليبرالية تعني: (الانحلال التام)، وخاصة في مجال الأخلاق الجنسانية التي تُشكل الهاجس القيمي للمجتمعات التقليدية. ولهذا لا تعجب حين ترى بعض العوام وأشباه العوام يُرددّون نتيجة عبثية هذا الكتاب وأمثاله من المنشورات الصحوية أن الليبرالية تُبيح للإنسان أن يتزوج أمه وأخته و...إلخ الهلوسات الهجائية التي يَضخّها التيار الصحوي التجهيلي في جماهيره البائسة التي تعيد تدوير نفايات هذا الجنون المسعور. إن التعريف السابق الذي جعل الحرية الليبرالية متحررة من كل القيود إلى درجة الفوضى، لا بد أن يؤدي إلى مثل هذا الفهم الذي هو أشبه بالجنون الرسمي. إنهم يتعمّدون هذا التزييف من أجل التشويه؛ لأنهم لا يمكن أن يكونوا قد بحثوا مسألة الليبرالية ولو من وراء مئة ألف حجاب؛ ثم لا يتضح لهم أنها لا تعني بأي حال من الأحوال : الحرية الفوضية. بل إن كثيراً من نقولاتهم تشير إلى وجود قيود على الحرية، فهل نقلوها وهم لا يعون معنى ما ينقولون؛ فكانوا كالذي يحمل أسفاراً، أم إن تعمد تشويه الليبرالية جعلهم يحشدون النصوص المتناقضة، تاركين لها العمل في عقل جماهيري عشوائي اعتاد على الجمع بين المتناقضات بقوة العاطفة المُوجّهة؛ لا قوة العقل الواعي؟ التيار الصحوي يحكمه الغباء المتأصل حتى في هجائياته العِلْموية. لا يستطيع هذا التيار الهزيل معرفياً بناء نسق متكامل متسق للمنظومة الهجائية التي يطرحها. بل أكاد أجزم أنه لا يعي ما يقول؛ وهو يدبج مثل هذه المقولات المتناقضة. فهو عندما يؤكد على أن الحرية الليبرالية حرية مطلقة، لا يتناقض مع حقيقة الليبرالية كما هي مراجعها الفكرية وتمثلاتها الواقعية فحسب، وإنما يتناقض مع خطابه (الفكري) عنها أيضاً، أي في ثنايا ما يحشده من تعريفات وتوضيحات ونقولات مؤيدة. وهذا التناقض الذي يقع في ذات الخطاب يظهر في محاور كثيرة، لعل أهمها ما يلي: 1 معظم التعريفات التي يوردونها ناقصة، إما عن قصد أو عن خلل بحثي. إنها تعريفات لا تحاول الإحاطة بتوصيف الظاهرة الليبرالية التي يزعمون الإحاطة بها. والمشكلة أنهم يبنون أحكامهم على افتراض إحاطتهم بها. إنهم في أحسن أحوالهم يكتفون بالتعريف القاموسي العام، الذي يطرح مفهوم الليبرالية بالإجمال. وتتصاعد أزمة الوعي حين ندرك أن هذا التعريف المجمل/ العام يُطرح على وعي فقير ثقافياً، بحيث يأخذه في سياق التعريف المحدد: الجامع المانع. فيجري تعريفها (= الليبرالية) ب: ’’التحررية’’ ، أو حتى ب: ’’الحرية’’، ثم بعد صفحات يتم إيراد بعض الشروح التعريفية التي تشير إلى أن الحرية هنا هي: (حرية الفوضى)، أي: حرية اللاقيود. وهذا يعني أن تشويه الليبرالية هو المقصود، وليس المقصود تعريفها عند إيرادها في مثل هذه الشروحات التدليسية. من المعلوم أن الليبرالية بطبيعتها تعكس فضاءً تحررياً يستعصي على التعريف المحدد. ومن ثم، فإن ما تورده ك(تعريف محدد) هو مجرد إشارة إلى هوية عامة لمجمل التمظهرات الليبرالية، بمعنى أنه إشارة إلى المبدأ العام المُوجّه، وليس تعريفاً تقليدياً/ جامعاً مانعاً!. من هنا، فالتعاريف القاموسية/ المعجمية تبقى تعاريف ناقصة، لا يمكن محاكمة الليبرالية إليها؛ دون الرجوع إلى كثير من التفاصيل الموزعة على أكثر من سياق بحثي، وعلى أكثر من حقل معرفي. والاكتفاء بهذه التعاريف المبتسرة هو جهل بطبيعة الليبرالية ذاتها، بل هو جهل بطبيعة كل المصطلحات/ المفاهيم/ الظواهر المفتوحة التي تستعصي على التحديد؛ قدر ما تستعصي على العقل المحدود! وهذا يعني أنك عندما تورد مثل هذه التعاريف الناقصة على وعي يأخذ أي تعريف مختصر مبتسر وكأنه يتضمن من الحقائق ما يعكس واقع الموضوع حقيقة؛ فإنك تزيد من الجهل به، وتعمّي على حقيقته؛ بدل أن تزيد من العلم به؛ وتضيء كثيراً من عتماته. وهذا ما ظهر جلياً في تناول هذا الكتاب لليبرالية، إذ من الواضح أن التجهيل والتعمية هما من أهم وسائله اللامشروعة للوصول إلى ما يتصوره هدفه الأساسي المشروع المتمثل في التشويه الذي يصل حد التكفير لكل ما يمت إلى الليبرالية بصلة من قريب أو بعيد. 2 في أثناء حشدهم النقولات التي تصف الليبرالية، لا يعون أن هذه النقولات تتضمن تحديد الحرية الليبرالية التي يزعمون إطلاقها، أو ربما كانوا يعون ذلك، ولكنهم لا يكلفون أنفسهم عناء ربطها بالسياقات الأخرى التي تشير إلى أن الحرية الليبرالية حرية مطلقة/ بلا قيود (كما رأينا في تعريفاتهم السابقة). بمعنى أنهم ينقلون أقوالاً كثيرة، ولكنهم لا يعون تناقضها، أو لا يستطيعون حل تناقضها، أو لا يريدون حل تناقضها؛ لأن حلها يكون بتقييد عام التعريف بخاصه، وتنظيراته بتطبيقاته، وهم لا يريدون أن تظهر الليبرالية بصورتها الحقيقية/ الإيجابية، أي أن تظهر وكأنها فعالية دائمة لاجتراح (الحرية المسؤولة) التي تتغيا جوهر إنساينة الإنسان. في ص 33 يناقشون المفهوم والمصطلح، وينقلون عن أحد الباحثين قوله: "والليبرالية مصدر فكرها (الفكر الاقتصادي الحر)، وهو يقوم على الحرية الاقتصادية بمعنى ألا تتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، أو أن يكون تدخلها تدخلاً محدوداً وعلى أضيق نطاق". وهم لا يعون القيد الذي يشير إلى تدخّل الدولة المحدود، إذ عدم التدخل نهائياً ليس وارداً أصلاً؛ فلا يوجد اقتصاد إلا وفق قانون يُنظّمه، وهو ما يذكرونه بعد سطور في قولهم عن الليبرالية: "ومن الناحية الاقتصادية تعني ’’حريّة ’’ الملكية الشخصية، و ’’حريّة ’’ الفعل الاقتصادي المنتظم وفق قانون السوق". لاحظ أنهم يشيرون هنا إلى التحديد في المجال الاقتصادي، فقولهم: " المنتظم وفق قانون السوق" يؤكد أن هناك قانوناً يُنظّم الحرية التي هي أساس الاقتصاد الحر. ومعنى كون الاقتصاد الحر له قوانينه المنظمة، أي له قيوده(والاقتصاد هو ميدان الليبرالية الأول الذي انطلقت منه)، يعني أن الحرية الليبرلية في بقية الميادين/ المجالات لها قوانينها المنظمة التي تضبطها أيضاً. ومع هذا يشيرون إلى القوانين في مجال الاقتصاد، ولا يشيرون إلى القوانين في المجال الأخلاقي. وكل ذلك من أجل أن تظهر الليبرالية وكأنها حرية بلا قيود، بلا أخلاق. عندما ينقلون عن مونتسيكيو معالجته لموضوع الحرية تحت عنوان (الليبرالية الكلاسيكية) ص37 يقولون عنه: "لكن دلالة الحرية عنده مخالفة لمعنى الفوضى، بل الحرية هي أن نفعل ما يجب أن نفعله؛ أي: ما تسمح به القوانين". ويقولون عنه ص38:"إن هذه الرؤية الحريصة على بحث خصوصية الواقع الذي يتبلور فيه النظام السياسي، والاعتدال في بنية السلطة، ساعدت منتسيكيو على التوصل إلى فكرة الفصل بين السلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهي جوهر مشروعه الليبرالي" . واضح أن فيما يقولونه عن منتسيكيو، أو فيما ينقلونه عنه، تحديداً واضحاً للحرية، فالحرية مشروطة بما تسمح به القوانين، والقوانين هي ضوابط وقيود، والسلطات: التشريعية والقضائية والتنفيذية هي سلطات مهمتها ضبط حركة الحياة في مسارها الحر؛ حتى لا تتحول إلى فوضى مدمرة. فأين هي الحرية المطلقة التي تصل حد الفوضى، والتي كما في زعمهم لا تقف عند حدود وليس لها أي قيود! الغريب أنهم عندما يتحدثون في المبحث الثالث الذي عنوانه: "الحرية في الإسلام في مواجهة شبهات الليبرالية" (وهذا العنوان كافٍ لمعرفة الروح الصحوية التي تحركهم)، تجدهم يضطرون إلى الاعتراف بأن للحرية الليبرالية حدودها، حتى وإن اختلفت المجتمعات في تحديدها. يقولون ص 55: "معنى الحرية، لا يؤخذ على المعنى المطلق؛ بل هو مقيد بحدود طبيعية واجتماعية؛ حيث تقف حرية الفرد في أبسط منطق عند حرية الآخرين، فحرية الأفراد تنبع من داخلهم وتقف حدودها عند الخط الأحمر لحرية الآخرين. هذا هو مفهوم الحرية في المنطلق الليبرالي[هكذا]، وبالضرورة يتضمن وجود قيود وضوابط للحرية بمعنى أنها ليست مطلقة بل هناك حدود لها" . طبعاً، هنا اضطرتهم الإيديولوجيا السجالية إلى التأكيد على وجود قيود على الحرية في الليبرالية. ففي سياق محاولتهم التأكيد على أن القيود التي وضعها الإسلام (طبعاً، القيود التي تتكئ على تأويلاتهم الخاصة) لا تتناقض مع الحرية العالمية(التي تعكس روح العصر، والتي هي ليبرالية في الأساس)، وأن الإسلام هو دين الحرية مع كل ما يضعونه من قيود؛ لأن الليبرالية ذاتها فيها قيود. أي أن القيد على الحرية لا يلغي الحرية. وبهذا، فإن الإشارة هنا إلى القيود الليبرالية على الحرية، إنما هو فقط، وكتكتيك سجالي موقت لتبرير القيود الإسلاموية، وليس لنقض التعريفات السابقة التي أوردوها في سياق التبشيع، والتي تشير إلى أن الليبرالية حرية فوضوية بلا قيود. والسؤال الذي سيبقى ماثلا هنا: لماذا لا يشيرون إلى هذه القيود التي يقول بها فلاسفة الليبرالية صراحة، بل والتي يقولون هم بها بعد عشرين وثلاثين صفحة. لماذا لا يستعرضون هذه التأكيدات على القيود في الصفحات الأولى التي تتضمن التعاريف المختصرة؟ لماذا لا يربطونها بمقولات الوعاظ الصحويين التي تشير إلى فوضوية الليبرالية؟، لماذا لا يشيرون إلى خطأ تلك التعريفات الهجائية التي لا تتعارض مع حقيقة الليبرالية في مصادرها الأساسية فحسب، وإنما تناقض ما ينقلونه بأقلامهم عن أعلامها ورموزها أيضا؟. فمن أهم مبادئ البحث العلمي وأبجدياته التي يعرفها المبتدئون هو أن تُذكر الاستدراكات مباشرة بعد القول الذي يتضمن خطأ صريحاً، أو على الأقل تُذكر في الهامش مع إحالات توضيحية؛ لأن معظم جمهور هذا الكتاب يرجع إلى صفحات محددة من الكتاب ليتعرف على الليبرالية، إنه يرجع على وجه الخصوص إلى تلك الصفحات التي تتضمن التعاريف المختصرة، وعلى شرح المصطلح الغامض الذي استغلق فهمه على دهماء الصحوية، وكلها دهماء بلا استثناء. 3 لا يشير (الباحثون!) في هذا الكتاب إلى أن الليبرالية تنزّلت تطبيقاً على أرض الواقع في دول العالم الأول، وأن تنزلها في الواقع خير شاهد على أنها ليست حريات مطلقة، بل هي مقيدة بقوانين تفصيلية تضبط معظم أوجه النشاط البشري. العالم الغربي هو التجسيد العملي للرؤية الليبرالية، وبما أنه أوسع فضاءات الحرية، وأجملها، وأكثرها اتساقاً وتناغماً بين مكونات هذا الفضاء، وهو في الوقت نفسه أبعد ما يكون عن الفوضى، فالليبرالية كمشروع نظري هي أوسع فضاءات الحرية، و في الوقت نفسه هي أبعد ما تكون عن الفوضى. والشواهد الواقعية/ المتعينة تشهد على أن الفوضى الحقيقية إنما تستشري غاية الاستشراء في العالم الثالث المكبل بنظريات القيود والحدود والموانع و...إلخ، وبتطبيقاتها (= النظرية) المتمثلة في الإجرائيات القمعية لسلطات الاستبداد والاستعباد. يتبع

مشاركة :