نحو تحرير الثقافة العالمية من هيمنة المعيارية الغربية: الثقافة العربية المعاصرة نموذجا (1 / 3)

  • 3/9/2017
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

استقبال الآخر من خلال ثقافة اجتماعية معينة مهما كانت متقدمة فى مجالات أو تقنيات معينة، هل يعني ذلك التخلي عن المقومات الأساسية التي تميز المجتمع المحلي سعيا لمحاكاة ذلك الآخر تصورا منه أن هذه المحاكاة ستنقذه من "تخلفه" عنها، أم تسعى لتوظيف ما قد يكون متقدما في صنعه لدعم حاجاتي المجتمعية المحلية بأقل التكاليف ماديا ومعنويا؟ فبدو سيناء، على سبيل المثال، يصنعون عبر تاريخهم الطويل بيوتهم من خشب النخيل نظرا لأنها مادة حية رديئة التوصيل للحرارة والبرودة على حد سواء. وكذلك كانوا يعبرون عن قبائلهم بنسج بوارق تمثل هوية كل قبيلة. لكن ما أن احتلت دولة الصهاينة شبه جزيرة سيناء في أعقاب حرب يونيو/حزيران 1967 حتى جعلهم المحتل (ذو التوجه الغربي الحداثي) يتخلون عن المواد الطبيعية الحية التي كانوا يبنون بها دورهم، وأجبروهم على أن يبنوا بيوتهم من الأسمنت جيد التوصيل للحرارة في الصيف، والبرودة في الشتاء مما يجعلهم بحاجة لمكيفات هواء كأهل الحضر بحيث تثقل ميزانيتهم الهشة أصلا بما لا تطيق من أعباء، وما يذهب بتاريخ تكيفهم مع الطبيعة الصحراوية. والشيء نفسه أصاب، كما بين لنا العالم الجليل الأستاذ الدكتور حامد الموصلي، الأنوال التي كانوا ينسجون عليها بوارقهم وملابسهم الصحراوية. فقد أجبرهم المستعمر الصهيوني على ترك تلك الأنوال التي ورثوها عن الأجداد، واللجوء بدلا منها للرسوم المصممة في المجلات الغربية يستنسخون منها "باترونات" معدة سلفا على نحو ما تفعل الأسر الغربية مما جعلهم يفقدون هويتهم البدوية القائمة على إبداع حلول تناسب البيئة الصحراوية القارية، ويصبحون مجرد محاكين ومستهلكين للنظام الغربي المعولم. ويشبه هذا الاغتراب عن خصوصية المجتمع الأم ثقافة الطفل العربي في عصر هيمنة أفلام ديزني حيث يتحول من طفل متفاعل مع جدته أو أمه في استقباله لما ترويه عليه من قصص، ليصبح مجرد مستهلك سلبي لما يعرض عليه من أنماط "ديزني" أميركية الصنع. الأمر الذي يعرض الكثير من الأطفال للأدواء النفسية نظرا لتناقض النظام القيمي الذي تقدمه هذه الأفلام الأميركية مع ما يعايشه في مجتمعه العربي مما يترتب عليه قلق وصراع نفسي قد يحدوه إما للرفض التام لكل ما هو غربي، أو لرفض كل ما هو عربي، والشعور بالدونية بإزاء ما هو غربي. وقد يؤدى هذا الاغتراب لردود فعل عكسية كتلك التي نراها في بعض الأقطار الأفريقية تحت مسمى "الأصالة" التي تتمثل في التمسك الشكلي بالطقوس المحلية، وهو ما يدعى هناك تيار الـ authentecité. ولعله من اللافت أن دراسة نشرت لي باللغة الانجليزية حملت عنوان "ثقافة الطفل العربي في عصر "ديزني"، قد ترجمت للإيطالية وكثرت الإحالات إليها بصورة ملفتة في مختلف الدراسات بتلك اللغة، وذلك فيما يبدو نظرا لمعاناة الطفل الإيطالي مما يعاني منه الطفل العربي بسبب تغلغل ثقافة الطفل الأميركي في حياته. ولعل ذلك ما حدا بتيار ما صار يدعى في إيطاليا، خاصة في جامعة "لاسابينزا": "التحرر من النزعة الاستعمارية للعالم" أن يشير إلى أنه استلهم نقدي للمركزية الغربية، يليه (كذا) نقد الباحثين في أميركا الجنوبية لهيمنة المعايير الغربية. ولعلنا نجد التناقض بين الاستعمار القديم والجديد فيما عبر عنه الراحل "رينيه إتيامبل" مخاطبا أهل بلاده في منتصف الستينيات بكتابه الشهير الصادر عام 1964: أتتحدث فرنسية متأمركة؟ (Parlez-vous franglais ?). فقد صار الاستعمار القديم يعاني من هيمنة الاستعمار الجديد، ومن ثم صارت شرائحه الشعبية والمقاربة للرشادة العلمية تتعاطف مع المستعمر القديم (بفتح الميم) فيما يعانى منه من تهميش. وإذا كان التعريف الاقتصادي للاستعمار هو تصدير رأس المال، فإن الاستثمارات الأميركية في أوروبا الغربية أثناء الحرب العالمية الثانية قد جعلت من تلك البلاد بمثابة "مستعمرات" تابعة لها. وكذلك صارت كندا بالنسبة للولايات المتحدة حيث يبلغ الاستثمار الأميركي في بعض حقول البترول فيها قرابه الثمانين بالمائة. أما عن بلاد أميركا الجنوبية فحدث ولا حرج. ولعل رد الفعل الشعبي الفرنسي على سبيل المثال يتلخص في الإقبال على موسيقى "الجاز" باعتبارها من إنتاج الزنوج المقهورين في أميركا، بينما يسخرون من الأميركي الأبيض صاحب حضارة الكاوبوي التي لا تاريخ يذكر لها في مقابل حضارة القارة الأوروبية التي تربوها بمئات السنين. فماذا يقول إذن أصحاب الحضارات التي سبقت الأوربيين بقرون طويلة، كحضارتي وادي النيل، وما بين نهري دجلة والفرات التي أغار عليها الاستعمار الأميركي في القرن الواحد والعشرين كما يغير الجراد على خضار الأرض ليبيده ويبيد معه آثار تاريخه الضارب في القدم؟ د. مجدى يوسف ـ رئيس الرابطة الدولية لدراسات التداخل الحضارى (جامعة بريمن)

مشاركة :