تحرير الثقافة العالمية من هيمنة المعيار الغربي

  • 7/3/2017
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

لا أحد يستطيع أن ينكر منجزات الغرب الحديث في مختلف المجالات المادية والمعرفية. لكن، هل يبرر ذلك أن نرسخ ثقافة الخضوع لمنجزاته، وننكر على أنفسنا القدرة على الإضافة إليها ابتداء من اختلافنا الموضوعي عن الأرضيات الثقافية المجتمعية التي صدرت عنها معارفه وحلوله الحديثة؟ وبعبارة أخرى: هل نقبل مقولة كثيراً ما تتردد بيننا للأسف، وما أكثر ما تطبق من دون تصريح مباشر بها: هل لديك ما تقدمه من معارف ناجزة حتى تضع رأسك برأس الغرب الحديث؟ فلم المكابرة إذاً، بينما ليس لدينا ما نقف به في مقابل ذلك «العملاق» الذي غزانا وتغلب علينا بعلمه وفنه قبل مدافعه وطائراته الحربية؟ أليست أزمة الدولار عندنا دليلاً على ذلك الاحتياج الصارخ لما ينتجه، في مقابل ما نتقاعس عن إنتاجه لإشباع احتياجات غالبية شعوبنا؟ هؤلاء الذين يرفعون راية الانصياع التام للهيمنة الغربية في بلادنا يرون أن في المضيّ على نهجه، يمكن أن يرفع عنا ما نحن فيه من تخلف. فنحن أمام نسق غربي متماسك من الإنتاج المعرفي والمادي يقابله تهرؤ في خطاباتنا الثقافية وضعف وتهالك في إنتاجنا المادي. فلا داعي للمكابرة والادعاء بأننا «أنداد» لذلك العملاق، وما علينا إلا أن ننصاع إلى هيمنته في عصره هو، وأن نكرس ما يأتينا منه من معارف لا سبيل للحياة العصرية من دونها. هنا يثور لدينا التساؤل: مهما سعينا للتوحد مع منجزات الوافد الغربي: فهل نحن غربيون أيضاً؟ أي هل حاجاتنا الفعلية تطابق ما تسعى لإشباعه منجزاته؟ وما دامت الإجابة عن ذلك بالنفي، فما الضرر من أن نعيد النظر في ما يفد علينا من حلوله ابتداء من اختلافنا الموضوعي عنه؟ ليس عن «مكابرة»، وإنما لأننا ببساطة مختلفون ثقافياً، واجتماعياً، وطبيعياً أيضاً. وهذا يردنا إلى تحليل العملية الذهنية للتعرف الى طبيعة البحث عن حلول مبتكرة. فاللحاء المخي البشري بما له من كمية تفوق ما لدى اللحاء المخي لأعلى الثدييات يتيح لبني الإنسان القدرة على التجريد، ومن ثم إيجاد حلول يتعذر على الكائنات الأقل تطوراً أن تحققه لشروط موضوعية تتعلق بحجم لحائها المخي. وما ينتج من توظيف تلك القدرة الموضوعية هو ما يمكن أن يطلق عليه النشاط الذهني للبشر. وهو ما يمكن أن يفسر ردود الأفعال والحلول الفردية في آن. لكن بما أن الإنسان لا يعيش في فراغ، وإنما ينتمي إلى سياقات اجتماعية لكل منها خصوصيته النسبية في مرحلة معينة من تاريخه، فهو – أي الإنسان– يتشكل منذ ميلاده بما يطبعه به ذلك المجتمع من أساليب خاصة في تناول الأمور ورؤية للحياة... الخ على نحو يمكن التعرف اليه من خلال تكرار تلك الأساليب في مرحلة معينة من تاريخ المجتمع الذي نشأ فيه. وهو ما يمكن أن ندعوه هنا «الخصوصية المجتمعية النسبية». وهنالك نظريات عدة في هذا الصدد مثل تلك التي طلع علينا بها كارل فيتفوغل وتبناها عنه الراحل أنور عبدالملك في كتاباته (خصوصاً بالفرنسية) منذ ستينات القرن الماضي، داعماً بها تصورات سابقة في مصر لإبراهيم عامر، في كتابه الذي صدر في الخمسينات «الأرض والفلاح»، وهي القائلة بأن الاعتماد على الري الهدروليكي (الاصطناعي) وما يستتبعه من شق للترع والمصارف على ضفاف نهر النيل، يحتم وجود سلطة مركزية قادرة على هذه الإنشاءات الضخمة، وهي غالباً ما تكون متسلطة، وكأن ذلك هو «قدر» مصر على مر العصور. لكن هذه الرؤية اللاتاريخية فضلاً عن اختزالها للنشاط البشري إلى الضرورات الجغرافية الطبيعية في حاجة إلى المراجعة. فقد أثبتت البحوث الميدانية مثلاً في ثلاث قرى في الوجه البحري اختلاف كل منها عن الأخرى في تناول الأمور العامة والخاصة، وفي رؤى العالم. فما بالك بالوجهين البحري والقبلي معاً في مصر مثلاً، ناهيك بسائر أوطان العالم العربي؟ والسؤال هنا: هل نسعى لتجاهل تلك الخصوصيات الاجتماعية الثقافية، ونسقطها من حسابنا، على نحو ما درجت وما زالت تدرج عليه في الغالب الإدارة الحكومية، أم نفيد منها في تفاعل صحي لبعضها مع البعض الآخر بما يثري ويطور كلاً منها، وصولاً إلى دوائر أوسع من الاتصال بالثقافات الاجتماعية على المستويين المحلي والدولي معاً؟ فابتداء من هذه الخصوصيات الاجتماعية، يمكننا أن نغير العالم إلى الأفضل، وليس العكس من طريق فرض معايير معولمة عليها من خارجها. ولـديَّ فــــي هذا المجـــال نموذج ميداني في مجال العرض الراقص الهندي يقوم به فنان يوغا هناك يدعي «نافتيغ سنغ جوهار» حيث يسعى بعروضه الجسدية لتحــــرير مشاهديه الهنود من تكلس نظمهم القيمية. وينــاظر ذلك نشأة الباليه في البلاط الفرنسي ليعبر بالحركة والإيماءة الرهيفة عما لم يجرؤ الراقصون على البوح به جهراً في حضرة أهل البلاط. وبعد أن صار اليوم الجمهور بديلاً عن البلاط في السابق، نجد ما يسعى إلى تحقيقه داني يانغ، ذلك المخرج المسرحي الصيني في هونغ كونغ الذي يطمح من خلال عروضه الأوبرالية لهز عرش النظام القيمي الصيني التقليدي من طريق الأداء الرمزي، وهو ما صار يثير هناك الكثير من ردود الأفعال التي تناظر مثيلاتها الثورية في فرنسا لا سيما في مطلع القرن العشرين عندما قدم سترافنسكي عرضه الروسي «عصفور النار» على مسرح شاتليه في باريس. (كان لي الحظ أن أتزامل مع كل من نافتيج وداني في مركز بحثي دولي في برلين لتفاعل التراثات المسرحية على مستوى العالم). من هنا أرى أن إضافات الثقافات الاجتماعية المهمشة في عالم اليوم للوافد الغربي في مختلف المجالات المعرفية، ابتداء من الاختلاف الموضوعي بينها وبين ما تستقبله من رؤى وحلول غربية يمكن أن يقدم نموذجاً بديلاً لثقافة عالمية تقوم على التفاعل الندي المفتوح بين مختلف الثقافات على مستوى العالم بديلاً لعولمة معايير غربية لكل منها خصوصياته المجتمعية التي مهما تجاوزها فهي تحمل طابعها المجتمعي الخاص الذي تشكل عولمته تعميماً ريفياً متعسفاً لخصوصيات ثقافية على مستوى عالم اليوم (الذي صار يرمز إليه بالقرية الكونية) بدلاً من تفاعل منفتح لكل منها على كل ما عداها ابتداء من الاختلاف الموضوعي لكل منها، وإمكان الإضافة المتبادلة بناء على ذلك الاختلاف لتصبح الثقافة العالمية ندية في انفتاحها على الآخر بلا ضفاف. أما الأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر الآن، فهي أزمة إنتاج في التخصصات العلمية والمهنية. وحلها هو حشد القوى الإنتاجية في مشروع قومي عام يستهدف العبور نحو أفق جديد يدحر الحاجز الترابي الذي يقف في أذهاننا أمام تقدمنا. ولنا في ذكرى سواعد شبابنا في حرب 1973 خير مثال. فلن نتقدم إلا بهذا التحدي الجماعي المنتج للحلول غير التقليدية، والمتجاوز لأفكار التبعية السقيمة، الخضوعة لعولمة معايير الآخر من دون مسعى للإضافة ابتداءً من اختلاف سياقاتنا نحن هنا والآن.     * كاتب مصري

مشاركة :