من المقرر في القانون الجنائي أن الشركة كشخصية معنوية عليها مسؤولية مدنية عن أفعالها التي تسبب ضرراً للغير، سواءً في ذلك المسؤولية التعاقدية أو المسؤولية التقصيرية، وتلتزم في ذمتها المالية بدفع التعويضات التي تُستحق بسبب مباشرة نشاطها وما يرتكبه ممثلوها من أفعال ضارة باسمها ولحسابها. وكذلك الفقه الاسلامي- وإن لم يصرّح- قد أثبت المسؤولية المدنية للشخصية المعنوية، وذلك على أساس اعترافه لبعض الجهات- سواءً كانت جماعة من الناس أو مجموعة من الأموال- بصلاحية الوجوب لها وعليها واعتبارها صاحبة حقوق والتزامات. أما مسألة إخضاع الشركة كشخصية اعتبارية أو معنوية للمسؤولية الجنائية، فتعتبر من المسائل التي تثير جدلاً قانونياً وفقهياً منذ وقت ليس بالقصير وإلى يومنا هذا٬ وهذا يرجع إلى الاختلاف في التكييف القانوني للشركة كشخص معنوي. فلا خلاف بين الفريقين المختلفين في أن الشخص الطبيعي الممثل للشخصية المعنوية أو أحد العاملين فيها إذا ارتكب جريمة، فإنه يكون مسؤولاً جنائياً عنها وتوقع عليه العقوبة المقررة قانوناً، لكن السؤال الذي يثور حوله الخلاف، هل يُساءل الشخص المعنوي (الشركة) جنائياً عن هذه الجريمة؟. ففي الشريعة الإسلامية الفاعلُ المؤاخذُ جنائياً بفعله يُشترط فيه أن يكون مدركاً مختاراً، وهذا يعني أنه من البدهي أن يكون الإنسان فقط هو محل المسؤولية الجنائية لأنه وحده هو المدرك المختار، فالشريعة الإسلامية عرفت الشخصيات المعنوية من يوم وجودها، حيث اعتبر الفقهاء بيت المال جهة والوقف جهة أي شخصاً معنوياً، وكذلك المدارس والملاجئ والمستشفيات وأمثالها اعتبرها فقهاء الشريعة جهات أو شخصيات معنوية ذات أهلية لتملك الحقوق والتصرف فيها، ولكنهم لم يجعلوها أهلاً للمسؤولية الجنائية وذلك لأن المسؤولية تُبنى على الإرادة والاختيار وكلاهما منعدم دون شك في هذه الشخصيات٬ لكن إذا وقع الفعل المحرم ممن يتولى مصالح هذه الجهات أو الأشخاص المعنوية كما نسميها الآن، فإنه هو الذي يعاقب على جنايته، ولو أنه كان يعمل لصالح الشخص المعنوي. كما أن نفي المسؤولية الجنائية عن الشخصيات المعنوية لا يمنع من أن يُفرض عليها ما يحدّ من نشاطها الضار حماية للمجتمع ونظامه وأمنه وذلك مثل حال المجنون- الفاقد للإدراك- غير المسؤول جنائياً فإنه قد يُجبر على المكوث في مستشفى مناسب لمثل حالته إذا سبّب ضرراً للمجتمع من حوله. ووفق ما سبق ذكره نخلُص إلى أن الأصول العامة للشريعة تدل على أن الإنسان هو الذي يُوجّهُ إليه خطاب التكليف وذلك لميزة العقل والإدراك لديه، وأن الشخص المعنوي ليس أهلاً للعقوبة الجنائية شرعاً، وإن ثبتت له أهلية مفترضة في بعض الحقوق والالتزامات المالية، وذلك لأن هذا الشخص المعنوي لا يتمتع بعقل يفهم به التكليف وتناط به- من خلاله- الأهلية للأداء والعقوبة، بل إن تصرفاته تتم ممن يلي أمره، والذي إن أجرم تحق عليه العقوبة هو بنفسه، ولا يُحمّل الشخص المعنوي وزر تلك الجريمة ولو وقعت في سبيل مصالحه المالية، ومثال ذلك ما يفعله الولّي من جرائم لتحقيق مصلحة مالية في مال القاصر الذي يلي أمره، فالعقوبة تنصرف له وحده، ولا يلحق القاصرَ شيء منها ولو كانت لصالحه ولمصلحته. وفي القانون الوضعي يتأكد نفي المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي مع إبقاء المسؤولية المدنية، وفي ذلك يقول المستشار الدكتور السنهوري رحمه الله في شرحه للقانون المدني: «وإذا كانت المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي يصعب التسليم بها، لصعوبة تصوّر عقوبة جنائية تنزل بالشخص المعنوي إلا فيما يتعلق بالغرامة والمصادرة والحلّ، فإن المسؤولية المدنية يسهل التسليم بها، فإنها تقع في مال الشخص المعنوي». ومن خلال استقراء نصوص نظام الشركات السعودي، فإننا نجد أن النظام السعودي لم ينص فيه على مسؤولية الشركات جنائياً، بل كانت العقوبات المقررة فيه منصبةً على الأشخاص الطبيعيين الذين يمثلونها أو العاملين فيها أو المتعاملين معها، وأبقى المسؤولية المدنية قائمة على هذه الشركات وفق تفصيل ليس هذا محله في نوعية العقوبات التي تناسبها. وفي المقالة القادمة سنأتي- بإذن الله- على تفصيل هذا الأمر مع الإشارة لانتقادٍ يتعلق بالغرامات المفروضة من قبل هيئة السوق المالية على الشخصيات المعنوية ممثلةً في الشركات المساهمة دون فرضها على الأشخاص الطبيعيين المسيّرين لها والقائمين عليها.
مشاركة :