مَنْ أنت.. مَنْ أنت؟

  • 4/26/2014
  • 00:00
  • 14
  • 0
  • 0
news-picture

هذا سؤالٌ قصيرٌ طلَبتُ إجابته من مِئاتٍ من الطلاب في المرحلة الثانويَّة، خلال مقدمة لورشة عمل تتحدَّث عن أهميَّة التَّخطيط للمستقبل، وترَكتُ حريَّة الإجابة للطلاَّب دون تقيُّد بأيِّ إطارٍ فكري أو منهجيَّة للحل، ولقد انحصَرَت الأجوبة في مجملها في جوابٍ محدودٍ ويسير: أنا فلان بن فلان، وأثار هذا الجواب بعضَ التساؤلات والتأمُّلات التي تتمَحوَر حول موضوعٍ يشغلني كثيرًا، هو: الوعي بالذات. فهل تُفِيد هذه الإجابة انحِصار مفهوم الذات لدى هؤلاء الناشِئة في أسمائهم وأنسابهم؟ هل من الإنصاف أنْ نتوقَّع إجابات أكثَر تفصيلاً تَعكِس وعيًا عميقًا بالذات من طلاب في هذه المرحلة العمريَّة؟ هل تحرص مناهج التربية والتعليم على أنْ تدرج معرفة الذات وتشكيل الكينونة ضمن أهدافها المرحليَّة؟ هل ساءَلنا عُلَماء النفس والشريعة عن الخط الزمني لتشكُّل وارتِقاء الوعي بالذات الإنسانيَّة؟ هل ستختَلِف الإجابة كثيرًا إذا طرَحنا السؤال نفسَه علينا نحن الكبار، أو مَن نظنُّ أنَّنا أكبر وأكثر إدراكًا ووعيًا بذَواتِنا؟ كم من الوقت والجهد والفكر والبحث والنِّقاش نستَثمِر بهدف زيادة وعينا بذواتنا؟ يقول الخالق عزَّ وجلَّ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} «الشمس: 9»، هذه آيةٌ كريمةٌ حفظناها منذ نعومة أظفارنا، وكبِرْنا وأصداؤها لم تزَل عالقةً بذاكرتنا دون أنْ نُولِيها حقَّها من الفهم والتطبيق العملي، تُصوِّر هذه الكلماتُ الإلهيَّة الحياةَ بأنها رحلة تزكية للنفس، وبمقدار التزكية يكون الفلاح في الدارين، ومن المعلوم أنَّ تزكية النفس لا تستَقِيم إلاَّ على أساسٍ مَتِين من الوعي والإدراك بها. عجيبةٌ هذه النفس الإنسانيَّة! نجهَل كثيراً من جوانبها، أو نَتجاهَلها، وهي قريبةٌ منَّا وبين أضلعنا. هل نغرس في أطفالنا وطلاَّبنا بُذُور الوعي بالذات، أم إنَّنا نتركها للعفويَّة والمصادَفة؟ هل نُذكِّر أنفسَنا وأولادنا بأنَّنا أكثر بكثيرٍ من مجرَّد اسمٍ اختاره غيرنا لنا، ونَسَب نفاخر به مع أنَّنا لم نجتهد في الحصول عليه؟ أنا أكثر وأكبر بكثيرٍ من اسمي، هذه هي الإجابة التي اجتَهدنا أنْ نلفت أنظار الناشئة إليها. أنا أعرف قدر نفسي ومنزلتها، إنَّ ذاتي أكثر وأعظم من اسمي؛ فأنا -في الأصل الذي به دوما أفخر- نفخة من روح الإله، أنا نسل من سواه الله بيديه، وشرفه بكلماته وعلمه، أنا ابن ذاك التائب المستغفر الذي سجدت له الملائكة، أنا مخلوق في أحسن تقويم. أنا اسمٌ ودين، وقيم وتاريخ، وطموحات وأحلام، وأدوار مختلفة، أنا انتماءٌ حيٌّ وفاعل ومؤثر لخير أمَّة أُخرِجت للناس، أنا من أمة الشهادة على الناس أجمعين، قدوتي إمام الأنبياء، وخيرهم وخاتمهم، المبعوث للثقلين، محمد الصادق الأمين، رحمة الله للعالمين، من فلق له القمر، ومشى له الشجر، ونبع الماء بين أصابعه، وسبح الحصى في يده، وحن الجذع إليه، المشرف بالإسراء والمعراج، ضيف الله عند سدرة المنتهى، حيث أراه من آياته الكبرى، وأسمعه صرير الأقلام على اللوح المحفوظ، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى، صاحب الخلق العظيم، المخصوص بالحوض والشفاعة، وأول من يقرع باب الجنة ويدخلها. أنا ماضٍ وحاضر ومستقبل، أنا عاملٌ أتعبَّد ربي بالإتقان في كلِّ عمل أؤدِّيه، أنا طيب، وربي طيب، ولا يقبل إلا طيبا. أنا أعز عزيز في الكون بتوحيدي ربي، وأشرف شريف بسجودي له، فهو رب الأرباب، وملك الملوك، وخالق كل شيء، الكبير، المتعال، إله عظيم ليس كمثله شيء، أول فلا شيء قبله، وآخر فلا شيء بعده، لا أعبد إلا هو، ولا أخاف غيره، ولا أرجو سواه، رزقي بيده وحده، فأنا أغنى غني به، ومستغن عن كل من سواه، هو فرحي وأنسي، وأمري كله موكول إليه، منه وبه محياي ومماتي، هو حَسْبي وحَسَبي، وثقتي ومعتمدي، وأملي وغايتي، وحافظي وحفيظي، لا أضام أبدا ليقيني بأن الأمر بيده وحده، وإليه يرجع الأمر كله. أنا صاحب همَّة عالية ليس لها حدٌّ إلا جنَّة عرضها السموات والأرض، أنا صاحب مواهب وطاقات اختصَّني الله بها من كلِّ المخلوقات، وكلَّفني باكتِشافها وتطويرها وتسخيرها لخير الدنيا والآخِرة، أنا جَوانِب عديدة وكثيرةٌ تجعلني بحقٍّ أكثر وأكبر من اسمي ونسبي. إنَّ خيرَ ما يُختَم به الحديث عن الوعي بالذات، هو الفائدة العمليَّة؛ فإنَّ مَن يعرف نفسَه كخليفة الله في أرضه وفق هديِه وشرعه، وأنَّه ينتَمِي إلى أمَّة الخيريَّة والشهادة -فهو بلا شكٍّ يثمن ذاته ويُنزِلها منزلتها العالية الرفيعة، التي تترفَّع عن سَفاسِف الأمور وكل ما لا يَلِيق بها من قذر المعاصي والهمم الدنيئة. إن من يعرف أن أصله من نفخة الإله، وخلقه في أحسن تقويم، ليستحيي أن ترده غفلته وزلاته لأسفل سافلين. إنَّ الوعي النَّشِط والمُتَنامِي للذات يُولِّد المرجعيَّة المُثلَى في الفكر والسلوك، والمحاسبة والتصحيح، والتوبة والإنابة، والتفاضل والتنافس، والطموح والإبداع والتميُّز، ومَن يَعِي ذاته من خِلال دراسة وتحليل لتاريخ أمَّته وأسباب عزَّتها، لا شكَّ يشعُر بمزيجٍ من الفخر بماضيها المُشرِق، والحرقة والشَّوق الدافعين إلى العمل الجاد الذي يهدف إلى إعادة عزَّتها، وهو مُوقِنٌ بأنَّ الله لا يُخلِف وعده، وشتَّان بين مَن يمشي مكبًّا على وجهه، لا يعرف ذاته ولا يثمنها، ومَن يمشي سويًّا على صراط مستقيمٍ، أساسه الوعي المتجدِّد بالذات، وتزكيتها الواعية، والمنهجيَّة على درب الفلاح والسَّعادة.

مشاركة :