صالح كرامة: أعيش في الخيال.. وفي «المشيمة»

  • 3/20/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

الحديث عن ذاكرة الأمكنة، مع شخصية مثل المخرج والكاتب المسرحي، صالح كرامة العامري، لن يكون حديثاً عابراً، بل ستعيش معه تفاصيل مدهشة، خصوصاً أنه مازال يعيش في عباءتها، فهو الذي لا يعرف كتابة أي نص إلا في مقهى قرر أن يسميه «مقهى المشيمة»، وهو قريب من أطلال بيوت شعبية كانت شاهدة على أيامه، يتخيلها حتى يصل إلى مرحلة التحام مع تلك الذاكرة حدَّ أن ينهض من مكانه في وقت الغذاء الذي يشمُّ رائحته قادمةً من الماضي، ويرى صورة أمه أمام القِدر تسيطر على كل حواسه، لكنه يعي أن تلك القِدر التي شهدت على نكهات اللقيمات والهريس، وكانت تتسع لوليمة أصدقاء والده بعد عودتهم من صلاة الجمعة، لم تعد موجودة. راحة وقدر أمي يبدأ العامري الحديث عن الماضي، ووصف المنطقة التي كان يعيش فيها «منطقتي هي الحي الشعبي الذي كان يطلق عليه (الباور هاوس)، وكان موجوداً خلف شارع الدفاع في العاصمة أبوظبي»، وقال وهو يحاول الوصف بدقة أكثر «كانت هناك بيوت شعبية جميلة متلاصقة، وكان منزلنا يتكون من خمس غرف متوزعة بين أفراد عائلتي، وعددهم ثمانية»، وبغصة واضحة في صوته «كانت الحياة تشبه تلك القِدر الكبيرة التي كانت تخرج منها رائحة الهريس واللقيمات من صنع أمي، ونتبادلها مع ما يطبخ الجيران». • «حنة» عنوان فيلم صنعته يتحدث عن الفترة التي كنت شاهداً عليها في مراقبة القطع البيتية الشعبية المتلاصقة وهي تتحرك. • في غرفة المسرح سلموني بيع التذاكر بعد أن أصبح بناء المسرح جاهزاً وبدأ يستقبل الناس من تلك البيوت الشعبية، ومن بينهم أمي، هناك تعلمت الحياة وتعلمت المسرح وتعلمت الديكور، وتعلمت أن أقرأ «جلجامش» وأنا في سن صغيرة، وقررت أن أظل مخلصاً له. • «كانت الحياة تشبه تلك القِدر الكبيرة التي كانت تخرج منها رائحة الهريس واللقيمات من صنع أمي». • «في ملتقى محبي المسرح كنت مسحوراً بطريقة حديثهم التي كنت أشعر بأنها مختلفة». • «فترة السبعينات شهدت انتقال كل شيء من القديم إلى الحديث، فالجميع هجر أمكنته، أما أنا فقررت أن أظل، وبدأت بالكتابة وصناعة المسرحيات وحدي». • «أدرك أنني مازلت أعيش الوهم وخيالات الماضي، وعلى ما يبدو أن الزمن تجاوزني لأني مازلت أعيش على أطلال بيتي الشعبي». • 20 عاماً ظل يقصد مقهاه الشعبي الذي سماه «المشيمة». نادي البطين العاطفة تسيطر على العامري وهو يؤشر بذراعه إلى الأمكنة، لكنه في لحظة قرر الانتقال من ذلك البيت الشعبي إلى أكثر الأمكنة التي شهدت على طفولته وشبابه، وشكلت شخصيته الحالية، فهو يعتبر نادي الجزيرة، الذي كان اسمه نادي البطين القديم، والذي كان يتألف من بيتين شعبيين، أحدهما لكرة القدم والآخر للكرة الطائرة، هو منزله الذي كبر فيه وترعرع، خصوصاً بعد أن قرر المسرحي، جمعة الحلاوي، أن يستغل غرفة صغيرة موجودة في طرف النادي وتحويلها إلى ملتقى للمسرحيين، وهنا حكاية العامري مع المكان الأول «كان المسرحي جمعة الحلاوي الذي قرر أن يحول تلك الغرفة الصغيرة إلى ملتقى لمحبي المسرح متأثراً بالمسرح الكويتي، وكنت وقتها في فترة الإعدادي، أراقب الوجوه التي تأتي إلى تلك الغرفة، كنت مسحوراً بطريقة حديثهم التي كنت أشعر أنها مختلفة»، موضحاً «الحالة نفسها كانت بالنسبة لي مثل الباب الذي فتح مصراعيه لاستقبالي، أخذتني حالة تجمّعهم بشكل سلس، طريقة حديثهم، ضحكاتهم والعبارات التي كانوا يستخدمونها، كل ذلك جعلني أوجه نظري إلى تلك الغرفة، ونسيت تماماً لعب كرة القدم والطائرة». وَقْع الأسماء بعد أن تم تجهيز الغرفة للمسرحيين قرر جمعة الحلاوي بناء مسرح أمام الساحة، حسب العامري الذي سرح بذاكرته مرة أخرى، وقال «تلك الغرفة استقبلت المخرج المسرحي العراقي، إبراهيم جلال، وفاروق أوهان الذي مات وحيداً قبل فترة تحت برد وثلوج كندا، ومن سورية نزار فؤاد، وغيرهم الكثير، كانت أصواتهم الجهورية جزءاً من ذاكرتي مع المسرح، وقررت أن أكون ضمن تلك الغرفة، فسلموني بيع التذاكر بعد أن أصبح بناء المسرح جاهزاً وبدأ يستقبل الناس من تلك البيوت الشعبية، ومن بينهم أمي»، مؤكداً «من هناك تعلمت الحياة وتعلمت المسرح وتعلمت الديكور وتعلمت أن أقرأ (جلجامش) وأنا في سن صغيرة، وقررت أن أظل مخلصاً له». هجرتنا فترة السبعينات، التي شهدت انتقال كل شيء من القديم إلى الحديث، يختصرها العامري بالوصف التالي «تلك الفترة شهدت هجرة المسرح إلى التلفزيون، وقس على ذلك كل ما آل إليه المشهد، فالجميع هجر أمكنته، أملاً في صورة أجمل وحياة أفضل، أما أنا فقررت أن أظل، وبدأت بالكتابة وصناعة المسرحيات وحدي، حتى إنني صنعت فيلماً حمل عنوان (حنة) كان يتحدث عن تلك الفترة التي كنت شاهداً عليها في مراقبة القطع البيتية الشعبية المتلاصقة وهي تتحرك». ملاذ يصرّ العامري أن يعيش الماضي بكل تفاصيل حياته، لذلك قرر أن يبحث عن مكان يصنع منه ملاذاً يعيد إليه ولو جزءاً من الماضي، ووجده في مقهى شعبي موجود بموقف المواصلات في العاصمة، ومنذ أكثر من 20 عاماً وهو يقصده، استقبل فيه الكثير من أصدقائه المسرحيين مثل جواد الأسدي وغيره «المقهى، الذي أطلقت عليه اسم المشيمة، أهميته تكمن في قربه من منطقة البيوت الشعبية (باور هاوس) التي كنت وليدها، أتخيلها ورائي، وأتخيل ذهابي المستمر لها»، مؤكداً «صار اسمها بين أصدقائي (المشيمة)، وأنا قصدت ذلك المعنى، فالمنطقة التي يشعر بها أي شخص فيها بالأمان هي في رحم الأم»، ويختم العامري «أدرك أنني مازلت أعيش الوهم وخيالات الماضي، مع أن كل شيء حولك يؤكد لك أن المدن تغيرت، وعلى ما يبدو أن الزمن تجاوزني لأني مازلت أعيش على أطلال بيتي الشعبي».

مشاركة :