حوكمة الوسائل الإعلامية تعني إقامة نظام اجتماعي لوسائل الإعلام تنغمس فيه أطراف من المجتمع لوضع سياسة مراقبة ومحاسبة الوسائل الإعلامية المختلفة.العرب د. ياس خضير البياتي [نُشر في 2017/03/23، العدد: 10580، ص(18)] أسهم التطور التكنولوجي في ميدان الاتصال في تعزيز الحريات الإعلامية، إلا أن وسائل السيطرة والمراقبة تطورت هي الأخرى بصيغ مختلفة. وسيظل الجدل بشأن الرقابة في الإعلام متواصلا، فليس هناك من حسم نهائي يضمن انتصار طرف على آخر، وإن كان منسوب أو حدة هذه الرقابة تراجعت كثيرا بفعل وسائط الإعلام الجديد. إن العناصر الثلاثة: القانون والحرية والأخلاق الإعلامية، ليست متماثلة في الأهمية، لكن غياب أحدها يهدد رسالة الإعلام وحسن سير عمله. فمن دون حرية يصبح مضمون الإعلام بيانات رسمية، ومن دون قوانين تصبح المهنة مشرّعة الأبواب وغير محمية وعرضة للتجاذبات، ومن دون أخلاق يصبح الإعلام فاسدا، فتتراجع الضوابط ويتهدد دور الإعلام الرئيسي المراقب والناقد. ومن الإشكاليات التي يرتكز عليها النظام الإعلامي الجديد القائم المنافسة الشرسة في نجاحه على السبق الصحافي والإثارة. لذلك نرى المنافسة مستعرة بين الوكالات والفضائيات بشكل خاص، وغالبا على حساب أخلاقيات المهنة والمستوى. ويتجلى هذا في تعمد وسائل الإعلام، في تنافسها، على نشر صور القتلى والجرحى في مختلف الحوادث، واستغلال مآسي الناس بحثا عن السبق الصحافي، ولجوء المحطات التلفزيونية إلى البث (المباشر) لتغطية أحداث غير مهمّة الهدف منها إثارة اهتمام الناس. وتواجه وسائل الإعلام الجديد الرقابة بعدد من الإجراءات والممارسات تتمثل في توفير برامج مجانية لاختراق الرقابة على الشبكة العالمية للمعلومات، وتمكين الأفراد العاديين من امتلاكها. يضاف إلى ذلك تطور قدرات المستخدمين العاديين والمحترفين في اختراق الرقابة بتطورات تقنية تعجز الجهود المؤسساتية أحيانا كثيرة عن مسايرتها. دون شك أساء البعض استخدام مساحة الحرية المتاحة عبر وسائل الإعلام الجديد مثل المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي. ففي هذه المنافذ تُنشر معلومات غير صحيحة ومضللة للرأي العام، بعضها لتحقيق مصالح شخصية وأخرى لزعزعة الأمن والاستقرار العام. لازالت هناك تحديات رئيسية متداخلة تواجه الدول العربية بهدف تعزيز حرية الصحافة والاتصال في العصر الرقمي كما شخصها الكثير من الباحثين. ومن أبرز هذه التحديات: التحدي الأول: حماية الإعلاميين: إذا قمنا، على المستوى التشريعي، بالاعتراف نصا على حماية الإعلاميين بوضوح، فهناك حاجة لتطويره، فمازالت تُسجل حالات الاعتداء والقتل على الإعلاميين والصحافيين وخاصة في مناطق الحروب بأنواعها. التحدي الثاني: مستوى التعددية: لا مستقبل لإعلام حر في غياب تعددية حقيقية. وعبارة حقيقية هنا تعني أنها تعددية غير شكلية أو سطحية أو نمطية. فالتعددية في الإعلام ليست تعددية المنابر، بل تعددية تيارات الفكر والرأي، تعددية لغوية وثقافية وسياسية تعكس الجوهر الحيّ للديمقراطية المتمثل في وجود تيارات متعددة تتنافس بطريقة ديمقراطية. التحدي الثالث: السلامة الرقمية: هذه القضية طرحتها منظمة اليونسكو في الآونة الأخيرة بشكل حاد، لأنها مرتبطة بسرية المعطيات الشخصية ومواجهة القرصنة وحماية الملكية الفكرية وحماية الحياة الخاصة، ومناهضة الترويج للعنف والتمييز العنصري، والعمل على جعل الفضاء الرقمي فضاء للتسامح والتعايش والتفاعل والقبول بالاختلاف. التحدي الرابع: التحدي الاقتصادي: أي النموذج الاقتصادي للمقاولة الإعلامية في العصر الرقمي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه لا يمكن تصور مستقبل دون صحافة ورقية كما لا يمكن تصوره دون تكامل مع الإعلام الرقمي. يكمن المستقبل في التقارب بين الرقمي والورقي واستمراريتهما معا. لقد دعا الكثير من الباحثين إلى ضرورة تنظيم الإعلام الجديد، إذ بات هذا التنظيم ضرورة عاجلة، مشيرين إلى أن ذلك لا يعني تقييدا للحريات أو تكميما للأفواه، وإنما يهدف إلى حماية الأشخاص والمجتمع ومؤسسات الوطن والصالح العام. ويعدّ التنظيم القانوني للإنترنت اليوم أحد أهم التحديات التي تشغل بال فقهاء قانون الإعلام والاتصال على الصعيد العالمي، وأمامهم تثار قضية التأطير القانوني للإنترنت نظرا إلى طبيعته كوسيط يسمح للملايين من الأشخاص في العالم بالاطلاع على الملايين من صفحات الويب. من هنا ظهرت مفاهيم جديدة لتنظيم الإعلام تتجاوز فكرة تنظيمه بواسطة الدولة، وتقترح طريقا ثالثا هو التنظيم الذاتي في إطار مفهوم أشمل هو حوكمة الإعلام الذي أصبح مدخلا مبشّرا في إدارة أو تنظيم مشترك للإعلام. إن حوكمة الوسائل الإعلامية تعني إقامة نظام اجتماعي لوسائل الإعلام تنغمس فيه أطراف من المجتمع لوضع سياسة مراقبة ومحاسبة الوسائل الإعلامية المختلفة. وتتاح الفرصة للفاعلين المدنيين في المجتمع للمشاركة في عملية صنع السياسة الإعلامية. كاتب عراقيد. ياس خضير البياتي
مشاركة :