كيف حدث التمهيد الفكري لغزوة مجلس العمومخلقت العلاقات الملتبسة بين بريطانيا من جهة وجماعة الإخوان المسلمين من جهة أخرى بيئة فكرية عقدية تحولت إلى رافد أساسي لتجنيد المتشددين من أجل الإنضمام إلى تنظيمات جهادية، على رأسها داعش. وبعد الهجوم قرب البرلمان البريطاني الأربعاء، هل ستحسم بريطانيا هذه العلاقة، أم ستترك المسلمين أسرى تحت مظلة حركات الإسلام السياسي كالعادة؟العرب هشام النجار [نُشر في 2017/03/24، العدد: 10581، ص(13)]الأسوأ لم يأت بعد أعادت العملية الإرهابية التي وقعت الأربعاء في قلب لندن، وراح ضحيتها أربعة أشخاص وجرح حوالي 40 شخصا الحديث عن تناقض العلاقة بين الغرب، الذي مازال يصر على التعامل مع “إسلام سياسي معتدل”، وجماعة الإخوان المسلمين التي تتخذ من بريطانيا قاعدة عالمية لها. وليس خافيا أن الجماعة تعتبر بريطانيا أحد معاقلها التاريخية، فهي تحتضن الكثير من كوادرها وأنشطتها، وهو ما يضع لندن في مواجهة صعبة بين سيئين: الأول تداعيات حسم تلك العلاقة ذات البعد التاريخي بعدما تبين أن تنظيم الإخوان يسير في الاتجاه المعاكس، والثاني السعي لاحتواء تركيا المركز المقابل لإيواء قادة الجماعة. وتحولت أنقرة لدى القوى الغربية إلى لاعب غير عاقل بالمعنى التقليدي للكلمة في قاموس العلاقات الدولية، وهنا مكمن الخطورة، إذ وقعت الجماعة في يد هذه القوة التي لديها مشاريع توسعية، ليس باتجاه الدول العربية فقط، وإنما تبحث عن نفوذ ثأري داخل العمق الأوروبي. ويمكن تقديم عدة قراءات لتطور حالة الإخوان في الغرب، خاصة في مراكزهم الرئيسة؛ بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة. وأدى فشل الجماعة في معركتها ضد الأنظمة العربية، وظهور بيئة إقليمية ودولية خارج الحدود قادرة على احتضانها، إلى الدخول في مرحلة مختلفة لعولمة نشاطها، ليس فقط بالانتقال من دولها لتأسيس تنظيمات عابرة للحدود كما في السابق، وإنما بتحويل مراكز الاحتضان لمطارات إقلاع بديلة لمشروعها الديني الشمولي. وبعدما فشلت الجماعة في تأسيس مركز دولتها في الشرق لتغزو من خلالها الغرب من أجل إقامة “الخلافة”، تعمل على تغيير البوصلة والشروع في أسلمة الغرب، لفرض نفسها من جديد على الواقع الإقليمي انطلاقا من موقع قوة وهيمنة. ويبدو أن مراكز الأبحاث في بريطانيا تغفل جملة من الثوابت، ومن ثم المتغيرات التي تطرأ على تنظيم الإخوان وقت الضرورة والأزمات، وأولها اللجوء إلى توظيف أكثر فصائل الإسلام الجهادي والتكفيري عنفا. واستطاع الإخوان، طوال تاريخ علاقتهم بفصائل التيار التكفيري المسلح منذ نشأة الحركة الإسلامية إلى اليوم، احتواء ودمج وتوظيف معظم هذه الفصائل، إما بالاستفادة المباشرة وإما بالتوظيف غير المباشر. وفي مايو 2011، نبهت مقالة افتتاحية، نشرتها صحيفة “واشنطن تايمز” الأميركية إلى مقال نشر على موقعها بقلم القيادي بالإخوان صلاح الدين سلطان، أثنى فيه على أسامة بن لادن ورفعه راية الجهاد، واعتبره يمثل انتصارا للإسلام ومقاومة المحتلين. وليس هذا المقال سوى مجرد سطر في كتاب علاقة الإخوان بالجهاديين. وثاني تلك الثوابت والمتغيرات، أن الإخوان يتحولون تلقائيا إلى العمل السري المسلح وقت الضرورات، وهذا مثبت في أدبيات الجماعة، ناهيك عن ممارساتها طوال تاريخها. والثابت الثالث هو أن الإخوان قد يُظهرون للغرب أنهم أصدقاؤه وحلفاؤه، لكنهم-بعكس داعش والقاعدة- يجيدون المناورات والتقية، ولا يعلنون ما يضمرون، فضلا عن أن الغرب وبريطانيا، في المنهج الذي يدرس لأعضاء الجماعة، هم الشيطان وأعداء الإسلام.كان تاريخ 14 أغسطس 2013، بالنسبة للإخوان ولتنظيمات السلفية الجهادية والتكفيرية، بمثابة 11 سبتمبر ولم تلجأ لندن إلى الاصطدام بجماعة الإخوان، وربما تنظر إليها كشر لا بد منه، لكن في واقع الأمر لا يصح التعامل مع تلك الحالة بهذا التبسيط والاختزال، إذ باتت هناك ثلاثة مشاريع للخلافة تتنافس في ما بينها: هي “خلافة البغدادي” التي توشك على الأفول، وخلافة الظواهري، وخلافة أردوغان، وهاتان الأخيرتان تتنافسان حاليا لوراثة الأولى. وتقف جماعة الإخوان بكامل ثقلها لدعم “خلافة ” أردوغان كزعيم إسلامي متوج على الشرق والغرب، ولهذا أفتى رئيس المجلس العالمي لعلماء المسلمين يوسف القرضاوي، وهو مرجعية الإخوان الفقهية، بإسلامية النظام الرئاسي، الذي يسعى أردوغان لتطبيقه، في طريقه لتعزيز حكمه الشمولي الديني. ومن المهم بالنسبة لأتباع الجماعات المتشددة، على اختلاف مسمياتها ومصالحها، تحقق هيمنة جماعاتهم على السلطة بأي ثمن، على خلفية التنافس على صدارة المشهد “الجهادي”، وحرب الانتماءات والتصريحات والبيانات التي تفصل في تبعية كل تيار، ما بين قادة داعش وقادة القاعدة وقادة الإخوان. وفقدت جماعة الإخوان تماما صفتها كجماعة إصلاحية أو تجديدية أو دعوية، وصارت تتنافس لجذب جهاديين لنصرة مشروعها، ودعم مصالح أردوغان وصولاته، إما في الداخل العربي وإما في صراعه مع دول الغرب. ولا يحدث هذا فقط لأسباب سياسية، أو في حالات اضطرارية وفق متطلبات الواقع وتحدياته، لكن من منطلق فكري ومنهجي أيضا، فهم ينتمون لفكر واحد تقريبا، والتكفيريون في داعش والقاعدة يتغذون على الإنتاج الفكري الأكثر تشددا داخل الإخوان (وهو الجناح القطبي). وعندما يفشل الإخوان في السلطة والسياسة، أو تحدث أزمة ما، ينتعش التكفيريون بينهم بصورة تلقائية، بترويج حلولهم الصدامية الإرهابية الجاهزة، كمعالجة حتمية لتعويض الفشل في السياسة. وتلجأ الجماعة إلى تعاون وتحالف- خفي أو معلن- مع تلك التنظيمات لتعويض الخسائر في المشهد السياسي، والاستعانة بها كقوة ضاربة في مرحلة ضعفها، وللابتزاز والمساومة وتلميع الصورة، بترويج نفسها كتيار معتدل بديل عن المتطرفين في مرحلة القوة والانتعاش والحضور السياسي والتسوية السياسية. كل هذا ليس بعيدا عن الحالة البريطانية، فلكي تقنع جماعة الإخوان بريطانيا باعتدالها وسلميتها، أو أن تضغط لقبولها، تحاول طوال الوقت احتواء التنظيمات الجهادية الأكثر تشددا، وتعمل في الوقت نفسه على بسط نفوذها على الجالية المسلمة، التي تحولت إلى أسيرة لها، بتوافق رسمي. ويقول متخصصون في الإسلام السياسي إن على لندن التنبه إلى تحركات التنظيم؛ فالإخوان اليوم في علاقاتهم مع الدول والأنظمة الشرقية والغربية، وفي علاقاتهم مع التنظيمات الجهادية المسلحة، وعلى رأسها تنظيم داعش الذي أعلن مسؤوليته عن عملية لندن التي وقعت الأربعاء -وكذلك القاعدة- جماعة مختلفة تماما عن ذي قبل، وقد طرأت على ثوابتها متغيرات “الضرورة”. وكان تاريخ 14 أغسطس 2013، وما تلاه بالنسبة للإخوان ولتنظيمات السلفية الجهادية والتكفيرية، بمثابة 11 سبتمبر2001، حيث تفرق أعضاء تلك التنظيمات بعد فض الاعتصامات في القاهرة، ساخطين على عجز الإخوان وفشلهم السياسي، مدفوعين جميعا نحو النموذج التكفيري والجهادي المسلح. إنهم يتنافسون نعم.. لكن غايتهم واحدة، فلو لم يستطيعوا إقامة دولتهم الشمولية في الشرق، فسينطلقون لإقامتها من الغرب، إما وراء أردوغان، وإما وراء الظواهري. وبات مؤكدا أن على بريطانيا أن تدرس جيدا الحالة الإخوانية من جديد، من حيث صعوبة تحول الجماعة وترقيها إلى الحالة الحزبية المتعارف عليها، أو تصديق زعم أنها كيان سياسي أو دعوي سلمي، فهي أسيرة أسلوب إدارة الجماعات التقليدي المعروف، ليس فقط بتصدير رموز المشايخ وعدم الدفع بسياسيين محترفين، وإنما بتضييق البدائل إلى أبعد حد، من خلال حصر القرار داخل غرف الزعامات، وإلزام القواعد بالسمع والطاعة للمرشد أو قائد التنظيم أو الخلية، والمقربين منه.
مشاركة :