على بريطانيا خصوصا أن تتعامل بمفردها مع هذه القنبلة التي نسيت أنها نزعت فتيلها وتركتها بجوارها. اليوم يبدو ما حدث في لندن كدخان ينذر بقرب الانفجار.العرب أحمد أبو دوح [نُشر في 2017/03/24، العدد: 10581، ص(8)] كان متوقعا ما حدث بالضبط. حتى الإنكليز أنفسهم كانوا يعرفون أن الضربة آتية لا محالة. شعور فطري لكنه منطقي، وفقا لحسابات المعطيات والنتائج. مهاجم البرلمان البريطاني ليس شخصا مجهولا. الاستخبارات تعرفه بالإسم، ولديها سجل يظهر أنه مولود في بريطانيا، وأنه يحمل أفكارا متشددة. هذه معرفة سطحية، لا قيمة لها إذا لم يتبعها فعل. لكن من قال إن الاستخبارات تحتاج إلى أن تعرف المزيد عن الرجل؟ ثمة معرفة مسبقة بين الجانبين. ما يمثله هذا الإرهابي، وما تمثله أجهزة الاستخبارات. الاثنان نتاج خدعة كبيرة لا يلتقي نصفاها في نقطة مركز واحدة. نصف الخدعة الأول هو بذور التشدد التي زرعتها جماعات الإسلام السياسي في أوروبا، وأنتجت في ما بعد جيلا جديدا من الأفكار المتشددة التي لم نعهدها من قبل. النصف الثاني هو خدعة الإسلام المعتدل التي سقاها الإسلاميون بالملعقة لعقل أوروبي مصر على اللعب بالنار. مصدر الخدعة بشقيها هم الإخوان المسلمون. ما يحدث اليوم في بريطانيا على وجه الخصوص هو نتاج البيئة التي خلقها التنظيم على مدار عقود، خصوصا في لندن التي يتخذ “التنظيم الدولي” منها قاعدة انطلاق عالمية. عمل الإخوان المسلمين في بريطانيا مختلف تماما عن أساليبهم التقليدية في دول الشرق الأوسط. لا مجال هنا لاتساع منظومة التكافل الاجتماعي كما يحدث في بلدان عربية فقيرة. ثمة نظام صارم يكفل للبريطانيين وغير البريطانيين دخلا شهريا محترما لا يتجاهل احتياجات الناس الضرورية، ويبعدهم عن عقلية المافيا التي تدار بها كل هذه الحركات من تحت الأرض. إذن كيف ينفذ الإخوان إلى عمق الجاليات المسلمة في الغرب، إذا لم يكن التكافل الاجتماعي هو المفتاح؟ الحل هو التكافل الفكري والعقدي. نظرة الإخوان المسلمين لأنفسهم هي أنهم مظلة المسلمين في الغرب. المساجد والجمعيات الخيرية ومراكز الدعوة ومكاتب الحج والعمرة ومراكز استلام الزكاة وتوزيع الأضاحي تحولت تدريجيا إلى أذرع للتنظيم، والتنظيمات الأخرى الموالية له. جمع التبرعات في كل تجمع للمسلمين صار طقسا عاديا. حملات دعوة الناس إلى الدخول إلى الإسلام هي حكر على الإخوان ومعهم السلفيين، ورافد أساسي يضخ المتطوعين لداعش والقاعدة والجهاديين دون توقف. اليوم لم يعد سهلا العثور على بريطاني متحول للإسلام، ويحمل أفكارا معتدلة. أولى خطوات الدخول إلى الدين بالنسبة إلى أغلبهم هي إطلاق اللحية وإلباس المرأة خمارا أو نقابا يغطي كل ما فيها. بعد ذلك يسمح للمسلم المستجد بحضور الدروس الدينية، التي غالبا ما تكون الخطوة الأولى في طريق تقود حتما إلى حمل السلاح، أو على الأقل التعاطف مع حامليه. بعد ذلك تبدأ مرحلة معاداة الأرض التي يعيش فوقها المسلم “المتشدد”. النظر إلى أوروبا باعتبارها “أرض العدو” هو تحفيز فكري وجهادي تاريخي. نشر الإسلام في أرض “ليست بأرضه” هو الحلم الأكبر لكل من تعلم الإسلام على يد شيخ يؤمن “بأستاذية العالم”. هذه المنظومة هي ما تشكل وجدان الكثير من المسلمين في بريطانيا. المشكلة الحقيقية هي أن الدولة مقتنعة بإطلاق الإسلاميين على كافة المسلمين في بريطانيا. الفلسفة هنا هي أنه يجب أن يكون لهؤلاء قادة روحيون وفكريون ونشطاء لهم نفوذ، ويمكن التواصل معهم لاحتواء هذه الجالية التي لا تجلب على البلد غير المشاكل. لكن من قال إن المسلمين يحتاجون إلى وصي عليهم؟ هل من المعقول أن نعيّن سجانا لأي فئة تعيش في المجتمع خشية من شغبها؟ وهل من المعقول تسليم القط، سواء كان “معتدلا” أو متشددا، مفتاح الكرار ثم نبحث عن الأسباب التي جعلت شابا مخبولا يحمل سكين مطبخ ويقود سيارة، يدهس ويطعن ويقتحم البرلمان؟ ليس هناك وقود مخفف أو مركز عندما يكون بجوار النار. الوقود وقود، هذا شيء لا يقبل المزاح. لكن ماذا تفعل بريطانيا؟ هل الغرب عموما مطالب بأن يغسل لنا المسلمين والإسلام، وينظف عقلية العقول الوسطى التي تقود أغلب المسلمين إلى الإيمان بأن ما يقدم إلينا هذا كل يوم هو الدين الحقيقي؟ ماذا تفعل بريطانيا إن كان المسلمون مازالوا يصرون على العيش عام 2017 بتعاليم وسلوك ونظرة القرنين الأول والثاني الهجريين إلى الأمور؟ هنا تتحول بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا إلى ضحايا. هذه الدول قبلت التعامل مع الإخوان وكل المتشددين الآخرين لأنها لم تجد بديلا يملأ الفجوة التي يرونها تتسع كل يوم بين مجتمعاتهم من جهة والمسلمين من جهة أخرى. صعود الشعبوية واليمين المتطرف في أوروبا والولايات المتحدة جعل حكومات هذه الدول تقف حائرة أمام تراجع الأمان النفسي الذي لم يعد المسلمون يشعرون به في حياتهم اليومية. صار المسلمون اليوم يخافون من مصير اليهود قبل وخلال الحرب العالمية الثانية. من ترتدي الحجاب صارت تتلفت في الشوارع، ولون البشرة الغامق يتحول بالتدريج إلى علامة تميز المسلمين عن غيرهم. اليمين المتطرف يعرف تأثير “اليمين الإسلامي” المقابل ونفوذه في المجتمع جيدا. زعماء الأحزاب اليمينية يطرحون مقاربة بسيطة تماما تقول “إذا لم يتحمل قادة المسلمين الحقيقيين في دولهم مسؤولية مراجعة هذا الفكر المتطرف، فلا داعي لاستيعاب كل هذه الأمواج من اللاجئين المسلمين”. المنطق الذي تحمله الفكرة جذب أتباعا لا حصر لهم للالتحاق بها. العقبة الحقيقية أمام تجديد الفكر الإسلامي هي الإسلاميون أيضا. السيطرة على الجامع الأزهر في مصر، وكل المؤسسات الدينية الرسمية في الدول الإسلامية الأخرى، هي أحد الأهداف الكبرى التي توازي في الأهمية في أدبيات الإخوان التغلغل داخل صفوف الجيوش الوطنية. مر الإخوان بثلاث مراحل رئيسية للهيمنة. مرحلة ما قبل الربيع العربي، أو مرحلة “التمكين”، التي تمكن الإخوان خلالها من بسط نفوذهم على قادة المؤسسات الدينية المهمة، وتحويلها تدريجيا إلى التشدد الديني، لكن بعيدا عن السياسة. المرحلة الثانية هي “مرحلة الصعود” التي وصل خلالها التنظيم إلى الحكم في مصر وتونس وليبيا. كانت هذه فرصة لا تعوض لإحكام الهيمنة السياسية على المؤسسات الدينية، ومن ثم فرض الأجندة الفكرية التي ستبقى لعقود قادمة. المرحلة الثالثة هي التي نعيشها اليوم، وهي مرحلة لعب المؤسسات الدينية الرسمية دور المظلة الفكرية التي تسهل عمل المتشددين في كل مكان. قد لا يقصد رجال الدين في الأزهر التفاعل العقدي مع تنظيمات متشددة كداعش والقاعدة، لكن التقاعس عن مواجهة هذه التنظيمات منح شرعية كهنوتية لجرائمهم من دون قصد. خلف اللافتات الكبيرة ومجالس العلم التي يحفها الوقار في الأزهر وغير الأزهر، يقف الإخوان في الخلف، في موقع محرك الأحداث. لا أمل إذن أمام أوروبا في العالم الإسلامي وكل من فيه، على الأقل في المدى المنظور. على بريطانيا خصوصا أن تتعامل بمفردها مع هذه القنبلة التي نسيت أنها نزعت فتيلها وتركتها بجوارها. اليوم يبدو ما حدث في لندن كدخان ينذر بقرب الانفجار. لا مفر من حصار البيئة التي خلقها الإخوان المسلمون في بريطانيا وتصفيتها. تسليم المسلمين كأسرى لأجندة الإسلاميين سيهزم بريطانيا، وسيبقي المسلمين مع الوقت بانتظار مصير اليهود، الذي يبدو قادما لا محالة. كاتب مصريأحمد أبو دوح
مشاركة :