تيريزا ماي حديدية بريكست وصفيح الإسلام السياسي بقلم: أحمد أبو دوح

  • 6/11/2017
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

توازن بين الأجنحة المؤيدة للخروج من الاتحاد الأوروبي داخل حزب المحافظين، والأجنحة الرافضة لهذا الخروج، عرفت ماي تماما كيف تقيمه ببراعة، ما سمح لها بتقديم نفسها لخلافة كاميرون.العرب أحمد أبو دوح [نُشر في 2017/06/11، العدد: 10660، ص(7)]رئيسة الوزراء التي تعصف بحقوق الإنسان وتبقي على حقوق الجهاديين لندن - لا أحد يعرف ما يدور في عقل رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي. هذه سيدة لم تعرف النجاح تقريبا في كل الملفات التي كانت وصارت مسؤولة عنها. في بريطانيا، ماي هي التجسيد الحرفي لسياسة “الدوران والرجوع إلى الخلف”. منذ إعلانها في أبريل عن إجراء انتخابات مبكرة غيرت ماي خطابها وتغيرت معه. اليوم ماي لم تعد تؤمن بالاتحاد الأوروبي، وصارت “خصما” للطبقات الفقيرة والشباب في البلد، وفي يوم وليلة خرجت بخطاب معادٍ لقوانين حقوق الإنسان. حقوق الإنسان! لماذا؟ كل ذلك بسبب الإرهاب، أم للانتخابات ضروراتها؟ أليست هذه هي وزيرة الداخلية التي منحت حق اللجوء لقيادات التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وسلفيين ومتطرفين من جنوب شرق آسيا وحتى المغرب؟ أليست ماي هي الوزيرة التي كانت الجمعيات والمساجد والمدارس الإسلامية تتسلل إلى البلد من تحت أنفها؟ ألم تكن ماي مسؤولة عن أجهزة الاستخبارات التي كانت تشرف على ترحيل الليبيين والسوريين من أجل القتال في صفوف جماعات متطرفة ضد نظامي معمر القذافي وبشار الأسد، دون أن يتحرّك لها جفن؟ في النهاية لن يحصل شيء سوى أن ماي ستعصف بحقوق الإنسان، وتبقي على حقوق الجهاديين! نحن أمام عملية غسيل يد وتبييض سمعة غير مسبوقة. حقيقة أن سلمان العبيدي مرتكب مذبحة مانشستر، التي راح ضحيتها 22 شخصا، ليبي قاتل والده وشقيقه ضمن صفوف الجماعة الليبية المقاتلة، كشفت ما كنا نخاف أن نعرفه. يقول تحقيق استقصائي عمل عليه مجموعة من الصحافيين البريطانيين إن الأجهزة الأمنية البريطانية، تحت إشراف ماي، سهلت لسلمان العبيدي ووالده رمضان السفر لقتال القذافي عام 2011، كما وافقت على دعم وتسليح قطر لجماعات متشددة هناك. إحدى الجماعات التي سلّحتها ودعّمتها قطر في عام 2011 كانت “لواء شهداء 17 فبراير”، وهي الجماعة نفسها التي تشير التقارير إلى أن العبيدي انضم إليها. الأصول الليبية لرشيد رضوان، الذي شارك في الهجوم على جسر لندن وراح ضحيته 7 أشخاص، ستفتح أيضا قوس الاتهامات الأخلاقية لماي دون أن تغلقه. بضاعة بالية عقلية ماي المحافظة التقليدية تظهر في كل جوانب شخصيتها الجامدة. هذه السيدة الملقبة بـ”المرأة الروبوت” ولدت في الأول من أكتوبر عام 1956، في بيت قس كان معروفا عنه التحفظ في كل شيء، قبل أن تكمل تعليمها في مدينة أوكسفورد. في مطلع القرن ألقت ماي قنبلة ستؤثر كثيرا على حياتها السياسية، عندما قالت إن الناس باتوا يرون المحافظين على أنهم “حزب الأشرار”.أبو قتادة، ومعه أنجم شودري الداعية المتشدد من أصول باكستانية، هما صورتان لحالة السلفية الجهادية قبل ظهور تنظيم داعش. لم يكن لدى هؤلاء الدعاة تنظيم، وآخر ما كانوا يستطيعون الوصول إليه هو التسبب ببعض الضوضاء لا أكثر. لكن كارثة بريطانيا الحقيقية هي تنظيم الإخوان المسلمين بعد استفتاء يونيو 2016 الذي أدى إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كان على رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، الذي راهن على الاستفتاء في سبيل ترميم الصدع بين صفوف حزبه، الرحيل. هذا الموقف المفاجئ وضع ماي أمام خيارين: الخيار الأخلاقي بالرحيل معه بصفتها واحدة من أكثر المؤيدين في الحزب للاتحاد الأوروبي، أو الخيار البراغماتي بتولي رئاسة الوزراء. فجأة تحولت ماي من أكثر المؤيدين للاتحاد إلى أكثر المعادين له وقبضت على مقعد رئاسة الحكومة. شعار “بريكست يعني بريكست” الذي سيؤسس شخصيتها في ما بعد كـ”امرأة حديدية” محتملة جعلها تعتقد أن المحافظين وصلوا إلى أوج قوتهم. ضعف زعيم حزب العمال جيرمي كوربين وانقسام الحزب جعل العماليين يبدون وكأنهم هدف واضح يلوح أمام ماي. لم تتردد رئيسة الوزراء في التقاط البندقية وإطلاق النار على الهدف مباشرة. النار هنا هي إعلانها في منتصف أبريل الماضي عن إجراء انتخابات تشريعية مبكّرة كانت تتطلع إلى وضعها في قمة برج لا تستطيع المعارضة ولا غيرها الوصول إليه. لكن النار ارتدّت على مطلقها. فالإنتخابات، التي أنتجت برلمانا بلا أغلبية، هي تجسيد لحسابات ماي الخاطئة. بدلا من الأغلبية الساحقة التي كانت تسعى إليها فإن "التفويض الذي خرجت به هو فقد مقاعد للمحافظين وفقد أصوات وفقد دعم وفقد ثقة"، كما قال كوربين. بضاعة ماي السياسية دائما هي سعيها لأن تكون جزءا من حكومة “قوية ومستقرة”. منذ أن تولت منصب وزيرة الداخلية عام 2010 جاءت ماي ومعها شبح جاهز كي تخيف به الناس: الهجرة، الهجرة، الهجرة. حسنا. الهجرة في بريطانيا هي مشكلة ذات أذرع طويلة ضاربة في صلب إرث الإمبراطورية ولبّ العقل الجمعي للبريطانيين الذين صاروا يخافون من الجميع؛ من أوروبا والشرق الأوسط واليسار والمسلمين. مشكلة ماي أنها تعاملت مع الهجرة باعتبارها قضية أمنية فقط. هذا المفهوم الساذج جعلها تبدو وكأنها تبحث عن إبرة في كومة قش. هذه الإبرة هي الإرهابيون المختبئون وسط مجتمع الإسلاميين الأوسع. انشغلت ماي بالبحث عن الإرهابيين، وتركت البيئة التي تصنع الإرهاب. كان لدى ماي نظرة بسيطة: تقليص الخطر الإرهابي بخفض أكبر عدد ممكن من المسلمين الوافدين. المشكلة هي أنها كانت تمنع المسلمين المعتدلين، وتفتح أبواب البلد في وجه المتشددين. أغلب هؤلاء كانوا فارين من ملاحقات جنائية في بلدانهم. ثمة شق اقتصادي آخر كان يتحكم في سياسة الهجرة ضمن رؤية حزب المحافظين. الشعار الذي رفعته حكومة كاميرون هي خفض أعداد المهاجرين من مئات الآلاف إلى عشرات الآلاف. المحافظون كانوا يعرفون أن قضية الهجرة هي الحلقة الوحيدة التي تربط تطلعات أقصى اليمين وأقصى اليسار معا: القوميون المعادون لأوروبا، والعمال.محاسبة ماي سياسيا يجب أن تكون عن مسؤوليتها في غض الطرف عن تنامي البيئة التي غذّت التشدد منذ أن تولّت منصبها في وزارة الداخلية. الحزم الذي أظهرته ماي في قضية ترحيل الداعية الفلسطيني المتشدد عمر محمود عثمان (أبو قتادة) كان في جوهره تحويلا للأنظار بعيدا عن المشكلة الأساسية. القصف الإعلامي وصعود اليمين حوّلا المهاجر القادم من شرق أوروبا من مساهم أساسي في التنمية إلى “طابور خامس″. فجأة صرنا نسمع عن سيناريو أشبه بالدمار وكوابيس الخيال العلمي في سلسلة أفلام “حرب النجوم”. الكابوس الذي سيتحول إلى حقيقة لاحقا هو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست). انشغلت ماي، التي كانت مسؤولة عن ملف الهجرة آنذاك، بعملية “صيد الساحرات” التي أطلقت في الإعلام وفي الندوات العامة والمهرجانات الجماهيرية خلف كل ما هو أوروبي في بريطانيا. أيّ نقاش معاكس كان يخرس بصيحات: الوظائف، الوظائف، الوظائف! الصخب المتصاعد دمج قضية الجالية المسلمة من دون قصد في ملف الهجرة. هنا تاهت القضية الأساسية. البعدان السياسي والاقتصادي خُبّئا خلفهما المشكلة الاجتماعية والأيديولوجية. لعنة الإخوان الإسلاميون كانوا يعملون بكل طاقتهم على تأسيس قاعدة اجتماعية تحوّلت مع الوقت إلى حاضنة شعبية لاستقبال المتشدّدين، وتجنيد المزيد من الشباب المنتمين إلى الجيلين الثاني والثالث للمهاجرين. الإخوان المسلمون مثلا تمكنوا من خلق منظومة للرعاية الاجتماعية تقوم على جمع التبرعات، وتفوق منظوماتها الاجتماعية في كثير من الدول العربية نفسها. اليوم صار لدينا 5 آلاف جمعية إسلامية تعمل على الأراضي البريطانية. في نفس الوقت كانت ماي (وزيرة الداخلية) أسيرة عقدة الأزمة الاقتصادية التي ضربت قطاع العقارات والقطاع المصرفي أواخر العقد الماضي. النتيجة كانت تخفيض الإنفاق على أجهزة الاستخبارات، وإلغاء وظائف 20 ألف شرطي. الأمن كان يخسر الأرض لصالح الإرهاب الصاعد بفعل زخم ما يعرف بـ”الربيع العربي”، الذي أدى إلى وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر وليبيا وتونس. في بريطانيا الآن 23 ألفا يشتبه بأنهم يتبّنون أفكارا جهادية. الاستخبارات الداخلية البريطانية “إم آي 5″ لا تملك الموارد ولا العدد الكافي من العملاء المتخصصين في مكافحة التشدد الإسلامي. ثمة 4 آلاف ضابط ومخبر فقط مسؤولون في هذا الجهاز عن الملف. هؤلاء لديهم ميزانية تكفي لوضع 500 جهادي فقط تحت الرقابة لمدة 24 ساعة في اليوم. إذا كان لا بد من محاسبة ماي سياسيا على شيء، فيجب عقابها على مسؤوليتها في غض الطرف عن تنامي البيئة التي غذّت التشدد منذ أن تولت منصبها في وزارة الداخلية. الحزم الذي أظهرته ماي في قضية ترحيل الداعية الفلسطيني المتشدد عمر محمود عثمان (أبو قتادة) كان في جوهره تحويلا للأنظار بعيدا عن المشكلة الأساسية. أبو قتادة، ومعه أنجم شودري الداعية المتشدد من أصول باكستانية، هما صورتان لحالة السلفية الجهادية قبل ظهور تنظيم داعش. لم يكن لدى هؤلاء الدعاة تنظيم، وآخر ما كانوا يستطيعون الوصول إليه هو التسبب ببعض الضوضاء لا أكثر. كارثة بريطانيا الحقيقية هي تنظيم الإخوان المسلمين. عندما صعد تنظيم داعش بدءًا بعام 2013 وجد الأرض ممهدة. العقود الطويلة التي عمل الإخوان خلالها على زرع بذور أفكارهم أتت أكلها فجأة. بناء الحالة التكفيرية استغرق كلّ الوقت، أما انفجارها فحدث في غمضة عين.تيريزا ماي لم تبن سمعة المرأة الذكية أو الانتهازية أو السياسية البارعة، آخر ما تتمتع به هي الكاريزما أو الحضور أو القدرة الخارقة على التواصل. استيقظت ماي، ومعها كل الطبقة السياسية البريطانية على دوي الانفجار. الفزع والصدمة غيرا تقاليد الخطاب البائس والرّتيب. اليوم صرنا نسمع رئيسة الوزراء تقول إن “كلاما صعبا يجب أن يقال لهؤلاء” الإسلاميين، وأنّ “ثمّة من يعيشون وسط الجالية المسلمة ويدعمون الإرهابيين”. اليوم هذا الكلام! هل يجب أن تتراكم طبقات من السّذاجة فوق بعضها البعض كي يصل السياسيون الغربيون في مقاربتهم تجاه الإسلاميين إلى العقل والحكمة؟ المشكلة هي أن سذاجة الموظفين الصغار أو الصحافيين أو رجال الأمن يمكن تداركها. سذاجة رئيس الوزراء مكلفة. إذا لم يكن سيلان الدم في شوارع لندن ومانشستر كافيا لإخراج الغول الإسلامي من الحديقة، فمتى يحصل ذلك؟ الإخوان المسلمون هم ذلك الغول. هم الوجه القبيح للإسلام، ومن ثم للجالية المسلمة وتلك السيدة التي ترتدي الحجاب، وذلك الشيخ الذاهب إلى المسجد، وصاحب الجزارة الحلال، والبائع في هذا السوبرماركت العربي الأصيل. كل هؤلاء لا يستحقون أن تترك علامات حمراء على أبواب بيوتهم. كلهم لا يستحقون الملاحقة والضرب والسحل لأن لون بشرتهم مختلف. كلهم أيضا مسالمون ومؤمنون بالله ولا يدعمون داعش. إذا لم تتحرك بريطانيا لحصار الإسلاميين فلن تتوقف عند دور البلد الحاضن للإرهاب، بل ستصبح بلدا رئيسيا مصدّرا له. الجدل الآن يصعد من أسفل إلى أعلى. من الشارع حيث الناس قد فاض بهم الكيل، إلى طبقة السياسيين الحالمين الذين مازالوا يعيشون في الماضي. هذه الأيام التي لم يكن فيها نقاب ولا شادور ولا لحية طويلة تتدلى على صدر رجل يلبس جلبابا قصيرا ويسير وسط شارع أوكسفورد. على هؤلاء أن يستيقظوا للعالم الذي أصبح، لا ذلك الذي كان. على بريطانيا أن تعي الثمن، قبل أن تضطر إلى دفعه.

مشاركة :