إن الحديث عن أحد أعمدة الفن التشكيلي في البحرين، يفتتحُ آفاقًا متعددةً لا يتسعُ لها الإيجاز، فشخصٌ كالراحل الفنان راشد العريفي، الذي غادرنا مساء السبت (18 مارس 2017)، عن عمر ناهز الـ (76) عامًا، بعد مسيرةً حافلة بالإنجازات على الصعيد الفني، والتوثيقي، والكتابي، لهو حديثُ يستدعي التفصيل، فهو الرائدُ، والمؤسس، وصاحبُ البدايات، إذ أنهُ أول بحريني عرض أعمالهُ الفنية في معرضٍ خاص به، وهو أول من أقام تماثيل ميدانية، كما أنهُ أول فنان يحصل على ترخيص لتأسيس صالة للفنون، وأول من حصل على المركز الأول في أول معرض تقيمة الدولة، وغير ذلك الكثير.حول هذا الرحيل، استطلعنا آراء عدد من الفنانين الذين ربطتهم علاقة بهذا الراحل، بعضها يمتدُ لعقودٍ، منذُ بداية ستينيات القرن الماضي، ليحدثونا بإيجاز عن أثر هذا الرحيل على الحركة التشكيلية في المملكة، وعن أسلوب العريفي الذي استوحاهُ من التراث الدلموني، والأختام الدلمونية بشكل خاص، إلى جانب أثر هذا الأسلوب على الفنانين من معاصريه، ومن الأجيال الشابة القادمة، وكيف يتوجب على الجهات الرسمية والأهلية حفظ التراث الإبداعي للراحل، الذي عرف بغزارة إنتاجه، وبمبادراتهُ، التوثيقية والجمعية، في حفظ تراث البحرين، وتوظيفهُ فنيًا، إلى جانب قراءتهُ قراءة جمالية، كما فعل في العديد من مؤلفاته، خاصة في سلسلة «التراث البحريني»، والتي تنقسمُ إلى ثلاثة أجزاء «العمارة البحرينية»، و«الألعاب الشعبية»، و«فنون بحرينية». إذًا فالحديثُ عن العريفي حديثُ يتشعبُ للتراثي، والتوثيقي، والفني، إلا أننا سنقتصرُ في هذا الاستطلاع، على الجانب الفني للراحل، حيثُ سبق لنا في وقت لاحق، تناول الجانب التوثيقي والتراثي في مادة منشورة تحت عنوان «الراحل العريفي.. فنان استلهم التاريخ والتراث ليؤصل لحداثة فنية فارقة»، في العدد (10207)، ليوم الاثنين (20 مارس 2017)، من «صحيفة الأيام». مؤكدين فيها على أن «بوصلة الفنان الراحل لا تشيرُ إلى الفن، بوصفهِ فنًا تشكيليًا وحسب، بل تشيرُ إلى مختلف الفنون التي اشتغل على مقاربتها طوال حياتهِ الحافلة بالعطاء، فاسم العريفي، يقترنُ بالتراث، والتاريخ، فهو الحاصل على (وسام المؤرخين العرب)، ومؤسس (متحف التراث الشعبي)، وجامع مادته، إلى جانب كونه المؤسس للأسلوب الدلموني، والذي اقترن باسمه»، إذ عرف العريفي «كفنانٍ، وكاتب، ومؤرخ، وموثق، وجامع للتراث، ومثقف، فقد أصدر العديد من المؤلفات» في هذا المجال، وهنا سنحصرُ الكلام في الجانب الفني للراحل العريفي.بوسعد: العريفي أول من أخرج الآثار عن صمتها إلى فضاء اللون الفنان إبراهيم بوسعد، الذي تمتدُ معرفتهُ بالفنان الراحل إلى ستينيات القرن الماضي، أكد أن رحيل هذا الفنان يشكلُ خسارة كبيرة، فإلى جانب كونه رائدا من رواد الحركة التشكيلية، «كان الراحل حريصًا على المشاركة والتواجد في أغلب المعارض التي يشارك بها، إلى جانب كونه ترك إرثًا فنيًا يجدرُ الاهتمام به، كونه من أوائل الفنانين المهتمين بالتراث البحريني، وقد قادهُ هذا الشغف لتأسيس متحف جمع فيه الكثير من مخزون هذا التراث، إلى جانب كونه وظف هذا التراث في أعماله و(موتيفاته) الفنية». وبين بوسعد أن العريفي «من أهم المؤثرين في مسيرة الحركة التشكيلية في البحرين، لما يملكهُ من ديناميكية وجرأة في استخدام الخامات المختلفة والتقنيات العفوية التي اعطت أعماله، وخاصة الأخيرة منها، خصوصية على مستوى تكنيك اللوحة وتقنياتها، فمن تلك الخصائص الغاؤه استخدام الفرشاة، والرسم المباشر بأصابع اليد، كما أنهُ وظف خامات مختلفة، غير خامة الزيت، ليعطي للوحة أبعادًا ثلاثيةً من خلال البروز الطبيعي». وعن لقائه الأول بالفنان، سرد بوسعد تفاصيل هذا اللقاء الذي كان في نهاية ستينيات القرن الماضي، بـ «مدرسة الهداية الخليفية»، إذ كان الراحل يعملُ مدرسًا لمادة التربية الفنية، «كنتُ وقتها طالبًا في المرحلة الإعدادية، إلا أننا كنا نرى العريفي لا بوصفهِ أستاذًا بقدر كونه فنانًا، حيثُ كان يرتدي البنطال الإفرنجي، والقبعة، والغليون، مقتديًا بالفنانين الأوربيين، لهذا كنا نتعامل معهُ كفنان، وليس كمدرس لمادة الفن». هذه العلاقة التي بدأت بين العريفي وبوسعد، توسعت عندما التحق الأخيرُ بـ «جمعية الفن المعاصر»، بعد تخرجه من بغداد، عام (1979): «كنتُ في نقاش دائم مع الفنان الراحل حول الفن ومفاهيمه»، إلا أن هذا النقاش لهُ جوانبهُ المتعددة، والممتدة إلى مختلف الأمور، يقول بوسعد: «من الأشياء التي أتذكرها، هو اعتراضي الدائم على طريقة إدارة الجمعية، وعندما يحتدمُ النقاش، يصابُ الراحل بالتوتر، لشديد حبهُ لهذه الجمعية التي أسهم في تأسيسها، لهذا كنتُ أنسحبُ بهدوء احترامًا له». ويتابع بوسعد «بعد أن توسعت شريحة الفنانين الدارسين في الخارج، وجراء عودتهم إلى البحرين، كان لا بد من وجود مناخ يساعد على خلق نقلة نوعية، وإضافة رؤية تكميلية لما بذلهُ الرواد من جهود كبيرة في خدمة الحركة التشكيلية، فكان رأيي أن ننطلق نحو التغيير من الداخل، أي من داخل الجمعية، وكان بعضُ الفنانين الآخرين لهم رأي مختلف، ولم نصل لاتفاق محدد، فآثرتُ الاستقالة، وما أن علم الراحل باستقالتي، ثارت ثائرتهُ ووصفني بالتمرد، فالتزمتُ الصمت احترامًا، إذ كان الراحل ينطلقُ من حرصه وحبه للفن والثقافة». وحول جوانب الراحل الفنية، بين بو سعد أنهُ كان قريبًا من تجربة العريفي التشكيلية «إذ بدأ الراحل الرسم الواقعي (الانطباعي)، وأقام معرضهُ الشخصي في (نادي البحرين) في الستينيات، وجمع الأعمال المعروضة تحت مظلة الأسلوب الواقعي والانطباعي، إلا أنهُ بعد ذلك انتقل إلى البحث والتجريب، حتى وصلت أعمالهُ إلى مرحلة التجريد»، ويتابع بوسعد موضحًا العلاقة التي ربطت العريفي بالأسلوب الدلموني «بعد مرحلة التدريس، انتقل الراحل للعمل في المتحف، ومن هناك كان قريبًا من الآثار الموجودة، خاصة آثار حضارة دلمون، إذ يحسب للفنان أنهُ أول من أخرج التراث الدلموني، للصياغة التشكيلية، ونقلهُ إلى صالات العرض، بدل أن يكون حبيس المتاحف، كما أن الفنان استخدم الأختام الدلمونية وبعض المنحوتات، كـ (رأس الثور)»، وهذا ما يؤكد بوسعد أنهُ أسلوبٌ اختص به العريفي، ولم يتطرقُ لهُ أحدُ من الفنانين المعاصرين للراحل، أو حتى ممن جاء بعدهُ «لكن ربما في المستقبل، تكون هناك التفاتة من الأجيال القادمة، خاصة وأن الأعمال الفنية خالدةُ لا تموت». ودعا بوسعد الجهات المسؤولة لحفظ تراث جيل الرواد من الفنانين، مطالبًا بإقامة جناح لهؤلاء، «قبل أن تتسرب أعمالهم الفنية إلى خارج المملكة»، مؤكدًا على أن هذه الأعمال الفنية «ثروة وطنية، خاصة لمملكة البحرين، التي تعد رائدة في مجال الفنون التشكيلية في المنطقة».يوسف: العريفي.. المسحور بدلمون الفنان عباس يوسف بين أن الراحل العريفي كان مخلصًا لفعل الرسم وأهميته ودوره كفعل تغيير وتأثير على المجتمعات: «لم يتوقف العريفي قط عن الرسم، وما حرصهُ الدائم على الحضور والمشاركة في المعارض الجماعية، وخصوصًا (معرض البحرين السنوي للفنون التشكيلية)، إلا دليل إخلاص وإيمان بدور الفن»، ويضيف «كان يؤكد ليّ، كلما التقيتهُ، وتحدثتُ معهُ حول الفن التشكيلي، وكل ما يتعلق به من ملحقات ذات ارتباط مباشر، بهذ االدور»، ويردف «لقد فقدت الحركة الفنية في البحرين، أحد حافظي ومؤرخي تاريخها، كون الفنان الراحل واحدا من الذين عاصروا البذرات الأولى لظهور فعل الرسم في البحرين، وأسهم إسهامًا كبيرًا في ذلك». وفيما يتعلقُ بأسلوب العريفي الفني، أوضح يوسف «قضى الراحل وطرًا لا بأس به، مسحورًا وباحثًا في الموروث الدلموني، وأنجز أعمالًا فنية مهمة، مستوحاة من الرموز والرسوم والأختام الدلمونية، ولهُ في هذا المجال كتابات عدة أيضًا»، متابعًا «لقد بحث واجتهد كثيرًا، لا سيما في الرسم، وقدم في ذلك نتاجًا غزيرًا». وعن ما إذا شكل أسلوب العريفي الدلموني اتجاهًا لهُ مريدوه ومشتغلوه، قال يوسف «المسألة متروكة للزمن، لا سيما وأن للفنان الكثير من الفنانين الشباب المحبين»، مبينًا أنهُ ولا بد أن اثرًا منهُ سيظهر لاحقًا، ولو ببطء في الحركة التشكيلية المحلية. ولفت يوسف إلى أن العريفي كان معتزًا كثيرًا بمنجزه الإبداعي، ويعمل على المحافظة عليه بكل ما أوتي من سبل: «لذا تراهُ يرعى صالتهُ الخاصة لعرض أعماله الفنية فيها، في (مجمع المودا مول)، كما أسس متحفًا فنيًا خاصًا يحمل اسمه، (متحف راشد العريفي)، في مدينة المحرق، محتملًا كل تبعات ذلك معنويًا وماديًا»، ويضيف يوسف «هكذا أرضى العريفي ضميرهُ بشكل جلي، بما قدمهُ للمجتمع الذي ينتمي إليه، وهذا ما أكدهُ لي شخصيًا ذات يوم، في حوار أجريتهُ معهُ في العام (2005)، إذ بهذا قد وفر الكثير الكثير للجهات الرسمية والأهلية التي يتوجب عليها رعايته الرعاية التي تليق به كفنان رائد ومؤسس، وبكل ما تركهُ من إبداعٍ فني، رسمًا وكتابة وتوثيقًا». ويوردُ يوسف مقولةً للعريفي اختتم بها حوارهُ معهُ في احد الأيام، إذ قال الراحل: «ثمة مشروع توثيقي أنا بصدد تنفيذه، ليكون نافذة على العالم وللعالم دون شراكة من أحد، لا أطمح في شيء سوى الإيمان... أن كل فرد عليه حق لوطنه، لذلك يجب أن يكون فاعلاً ومؤثرًا فيه».الراشد: كان العريفي مواكبًا للحركة التشكيلية العالمية الفنان عمر الراشد أكد أن خسارة العريفي تمثلُ خسارةً كبيرة للوسط التشكيلي البحريني، مضيفًا أن هذا الاسم، وما يمثلهُ من مدرسةٍ فنية وأسلوبية، سيبقى حاضرًا في الأذهان، وستتناقلهُ الأجيال القادمة، إذ «يعتبر العريفي أحد أهم الفنانين التشكيليين، ورائدا من رواد الحركة التشكيلية، ومصدرًا فخرٍ لهذه الحركة، لما لهُ من أسلوب مميزٍ، مستوحىً من المحلية والتراث والتاريخ، منذُ العصور القديمة، إلى جانب كونه أضاف الكثير للحركة التشكيلية المعاصرة، وكان مواكبًا للتطور العالمي، إذ ترك إرثًا كبيرًا ستستفيدُ منهُ الأجيال القادمة». وبين الراشد أن الراحل ترك إرثًا كبيرًا، وأبرزهُ «الأسلوب الدلموني الذي سيمكن الكثير من الفنانين من الاستفادة منه، خاصة وأن هذا الأسلوب استمد عناصرهُ من تاريخ البحرين قبل الإسلام، منذُ (3000) سنة»، متابعًا «العريفي هو أحد المبدعين القلائل في العالم، الذين استوحوا أفكارهم من العناصر التاريخية القديمة، إلى جانب عدد من الفنانين المصريين الذين استوحوا أعمالهم النحتية من المجسمات والتماثيل الفرعونية، فقد عمد الراحل لاستيحاء الأختام الدلمونية، لما تحتويه هذه الأختام من أفكار وعناصر ورموز، إلى جانب التجسيد التجريدي لتفاصيل الحياة الاجتماعية آنذاك، إذ استطاع العريفي بموهبته أن يبرز هذا الفن، ويترك بصمتهُ فيه». ولفت الراشد إلى أن العريفي «لم يقف عند ابتكار الأسلوب الدلموني، بل أخذ في تطوير أسلوبه الفني، وذلك بالأشتغال البحثي في العادات والتقاليد والتراث، موظفًا كل ذلك في أعماله الفنية، إلى جانب تأليف الكتب، كما أن أعمالهُ جسدت العديد من ملامح التراث، كالعمارة، ورحلات الغوص، والسفن، التي كان يرسمها بطريقة عفوية، وبأسلوب حديث ومعاصر». وأشار الراشد إلى جانبٍ من جوانب العريفي الفنية، وهو حرصهُ على الرسم باستخدام أنامله، «لقد استغنى العريفي عن الفرشاة، ليحل أناملهُ بديلًا عنها، وذلك إيمانًا منهُ بأنها أقدرُ على تجسيد الاحساس العميق في العمل». ويشير الراشد إلى أن الراحل وحتى أواخر حياته «كان يمارس اشتغالهُ الفني، ويجمعُ الفنانين الشباب، ويوجههم، ويتواصل معهم»، مضيفًا «كفنانين عاصرنا العريفي، كنا نعتبرهُ بمثابة الأب الروحي إلينا، إذ كان يسعى دائمًا لأن نكون فنانين صادقين مع أنفسنا، ويرشدنا للاستفادة من الارث الكبير في الساحة المحلية، وكان يقدم المساعدة والمساهمة بكل ما يستطيع». وتمنى الراشد من الجهات المسؤولة، ومن (هيئة البحرين للثقافة والآثار) تخصيص قاعة تعنى بأعمال الفنانين الرواد، لما تركهُ هؤلاء من إرث، مبينًا أن الصمت يتسببُ في تلاشي ذكرى من اسهموا في تشكيل الحركة التشكيلية بجهودهم وإبداعاتهم. مشددًا على ضرورة أن تعرض أعمالهم للأجيال القادمة، لتتضح لهم الرؤيا حول الحركة التشكيلية وتشكلها منذُ جيل الرواد.
مشاركة :