النص الأدبي بين الحرية المنشودة والتابو الديني بقلم: علي لفته سعيد

  • 3/25/2017
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

النص الأدبي بين الحرية المنشودة والتابو الدينيمنذ أن وجدت الحرية وجد الأدب، مثلما وجد معه ما يطلق عليه “التابوات” التي تحاول الحد من حرية الأديب في تناول أفكاره الخاصة وربطها بالواقع، لذا تعد عملية الخوض في الأفكار الدينية أو مناقشتها الخوض في المقدّس الذي يراد له أن يكون سلطة محرمة. فكيف جابه المثقفون العرب هذا الممنوع المقدّس؟ وهل تراجعت سطوة التابو إثر الثورات الحاصلة حديثا في المشهد العربي؟ “العرب” خاضت في إشكالية المقدّس وعلاقته بالأدب مع مجموعة من المثقفين من العراق ومصر وتونس، فكان هذا التحقيق:العرب علي لفته سعيد [نُشر في 2017/03/25، العدد: 10582، ص(15)]الأدب يمكن أن يوجه بالقمع حتى قبل أن يكتب (لوحة للفنان غازي غزال) الممنوع المقدّس، وضع يوم كانت هناك مؤسّسات تجمع السلطة والقوة والقانون والشرع والتشريع، واعتبرت أن المساس بالمقدّس يعني المساس بالذات الدينية، ولأن النص الأدبي هو نصّ فردي يتوجه به إلى المجموع، وهم القرّاء المثقّفون الذين يؤلّفون أمّة، وهو نصّ يخاطب الآخر ومخيلته وعقله وحتى عاطفته، فلا بد أن يمنح الكثير من الحرية لكي يؤدي رسالته. فهل ما زال الزمن هو ذاته لتكون العلوية للتابو الديني؟ وهل ما زالت السلطة الدينية تحدّ من رسالة المؤلف المنتج؟ وهل ما زال الأديب العربي يخاف من الاقتراب من هذا التابو؟ ولماذا يخاف؟ ومن جعل هذه السلطة مخيفة أصلا؟ وهل هناك تراجع لتأثير هذا التابو حاليا، مما أجج ما يسمى بثورات الربيع العربي؟ بين المثقف والنص يعبر الشاعر العراقي علي الأمارة عن قناعته بأن التابوات الثلاثة؛ الدين والجنس والسياسة، لا تزال قائمة في هذا العصر، كما كانت سابقا وإلى وقت قريب، ولا سيما بعد انكشاف زيف الكثير من مدعي الدين أو مستغليه في أهداف أخرى غير دينية، مثلما انكشف زيف السياسة التي تستغل الإنسان سواء باسم الدكتاتورية أو باسم الديمقراطية. ويضيف الأمارة أنه لا بد للإنسان أن يدافع عن نفسه إزاء هذا الزيف الديني أو السياسي، والدفاع يأتي عبر النص الأدبي الموضوعي الذي يشخص الزيف أو بالأحرى يشخص الحقائق بعيدا عن الزيف أو القناعات المسبقة. ويرى الشاعر العراقي من جانب آخر أن المزيفين لعبوا على الأوتار العاطفية للناس، ولا سيما المقدسة منها فدسّوا لهم السم في العسل وأوقعوهم في فخاخ تاريخية يصعب الخروج منها إلا بحبال إبداعية قادرة على النهوض بالإنسان من آبار الخديعة. وبحسب الأمارة فإن خير هذه الحبال هي النصوص الأدبية التي تُمَدّ إلى الإنسان المخدوع القابع في قاع التاريخ باسم المقدس وغيره، ويحمّل الأدباء مسؤولية الاضطلاع بأدوارهم، كونهم أدباء طليعيين وأصحاب خطاب مؤثر وموضوعي.علي الأمارة: التابوات الثلاثة، الدين والجنس والسياسة، لا تزال قائمة في هذا العصر ويقول الأمارة “على صاحب النص ألا يقف على تل الفرجة ولا سيما في المنعطفات التاريخية التي يمر بها بلده، لأن في المنعطفات غالبا ما تكمن فخاخ الخديعة والاستغلال”، ويزيد بقوله “إن على المثقف أن يقرأ المشهد جيدا ويتفحصه لكي يقول رأيه ولا يتخلى عن مكانه ومساهمته في صناعة المشهد العام، فيترك المشهد للسياسي أو المتدين لكي يرسماه حسب ما يخدم مصالحهما، وعلى الثقافة أن تواجه وتكسر الحواجز ولا تضع خطوطا حمراء بسبب الخوف من الاصطدام مع السياسي أو الديني”. ويرى الأمارة أيضا أن الأدب جزء فاعل من الخطاب التاريخي العام، وعلى الأديب أن يكون دائم الحضور كي يتمكن من رصد التابوات ودحضها. يعتقد الروائي العراقي نزار عبدالستار أنه لا توجد سلطة دينية مانعة أو مهاجمة بقدر ما توجد هيمنة لبعض الدول التي تدير سوق النشر وتؤثر على حركة الكتاب بالمنع من التداول في المعارض، ويعتقد أيضا أن هذه الدول هي وريثة الربيع العربي، وبالتالي هي تتحكم بشكل مطلق ليس في الكتاب فحسب وإنما في توجهات دور النشر أيضا. ويضيف عبدالستار “إذا استثنينا الإشكالات الكبرى التي تمس مثلا الذات الإلهية أو سيرة المقدّس، فإن الكثير من التابوات يمكن تمريرها إذا توفر الدافع السياسي إلى ذلك، وبالتالي فإن هناك مستويات توجيه تفرضها الدول المهيمنة، وهذه الوسائل تتعلق بسوق الجوائز الذي بدوره يصب أولا وأخيرا في صالح دور النشر التي تحرص على تفادي المشكلات الدينية وتوجيه الأدب وفق مسار مقبول من الدول الراعية للجوائز”. ويشير عبدالستار إلى أن قضية التابو الديني ليست حقيقية في كل الأحوال، والنظر إليها يتم بطريقة سياسية ووفق رؤية دول المال، ويعتقد “أن هذا الأمر في الحقيقة يطرح العديد من الإشكاليات، منها أن الأدب يمكن أن يوجه بالقمع حتى قبل أن يكتب، وهذا ليس له علاقة بنمو التيار اللاديني أو الليبرالي، فالحكم أولا وأخيرا للظرف السياسي ووجود عقوبات تفرض على ثقافات معينة، لأنها غير مرغوب فيها”. نزار عبدالستار: توجد هيمنة لبعض الدول التي تدير سوق النشر وتؤثر على حركة الكتاب المقدس والسلطة يفرق الأديب المصري محمود قنديل بين المقدّس والسلطة الدينية، فيقول “ليس صحيحا أن للمبدع حرية مطلقة فيما يكتب، فعليه التحلي بروح المسؤولية وهو يخط كلماته ويصوغ رؤاه”. ويشير إلى أن تناول الثوابت أو المقدسات الدينية ينبغي أن يكون في إطار كتابات لا تتهكم ولا تسخر، ولكنه يستدرك بقوله “قد يجوز للكاتب أن يعيد توجيه التابو عبر رؤية فنية جديدة، لكنه لا يحق له إعلان المجابهة والعصيان للمحظور الديني أو الاجتماعي مثلا”. وفي المقابل، يطرح رأيا يتعلق بما يسمى السلطة الدينية، فيقول “لا أوافق على ما تطرحه من توجيهات بشأن الإبداع، لأنها ليست سوى مجموعة من الأفراد ترى في نفسها أنها، دون غيرها، تمتلك الحقيقة المطلقة رغم أحادية توجهها أحيانا، وضيق أفقها التفسيري لصحيح الدين أحيانا أخرى”. ويمضي قنديل بقوله “الأديب العربي إذا حاول الاقتراب من المحظور الديني فإنه يقترب على استحياء مخافة التكفير وتوجيه تهم الازدراء إليه، الأمر الذي قد يصل به إلى استحلال دمه”، ويستدرك من جديد فيقول “نحن اليوم في أمس الحاجة إلى البحث عن آلية تحد من تدخل السلطة الدينية في الكثير من مناحي الحياة، خاصة الإبداع والفكر، كما نحتاج إلى تفَهُّم المبدع والمفكر لحساسية الأمر، فلا يصطدم بمحظور يكون سببا لاصطدامه بالمجتمع ككل”. أما الأديبة المصرية أمل رفعت فتعتقد أن هذا التابو الديني الذي أسمته “التابو المُنقِّص لحرية الكاتب” لا يزال موجودا، وإن لم يوجد فستوجده السلطات إن تعدى الكاتب حدوده، ويظل فزّاعة، ويظل إبداع الكاتب منحة مقدرة لا يجب تجاوزها، وفي رأيها فإن هناك ارتباطا بين السلطة والدين، ومن هنا يظل الصراع بين الحرية الممنوحة للكاتب المنتج والحرية المطلوبة، قائما.أمل رفعت: الحريات ما زالت مقيدة ولا يزال نص الكاتب مبهما وتقول عن تأثير الربيع العربي “مُدان من عدة جهات، وقد وصلت الإدانة إلى الشعب الذي قام به، بل وصل إلى حد كونه حبلا شنق به الثوار أنفسهم، فأصبحوا معلقين عليه لا هم وصلوا إلى غايتهم المنشودة ولا قنعوا بما منح لهم”. وعن حرية الأديب، تؤكد رفعت “هي حرية مصلوبة على قلمه، فلا يميل إلى المحظورات كالدين أو السياسة أو كليهما معا، أو ينحرف عن نجاح نصه بالتخلي عن حرية التعبير خوفا من كسر قلمه”. وتعتقد كذلك أن الحريات ما زالت مقيدة ولا يزال نص الكاتب مبهما مبطنا بالسخرية الممزوجة ببعض المحظورات التي تتيح أكثر من تأويل، لينجو بنصِّه وقلمِه ونفسِه. وتبين رأيها في رسالة الأديب بأنها محكومة بالممنوح من الحرية، مما يستدعي التساؤل؛ كيف تصل رسالة الكاتب؟ وكيف يؤدي رسالته؟ وترى رفعت أن السؤال فاقد للإجابة، فحتى الثورات لم تحقق الحريات، وتعتقد أن الصراع سيظل قائما وتظل الأسئلة بلا إجابات، ويظل الأمل في نيل حرية القلم -حتى لو كانت مسخا- موجودا، وتزيد بقولها “لا حرية مطلقة في الوقت الحالي، المتوفر مجموعة من القيود”. الأدب والمقدس الأديب التونسي فوزي الديماسي يتبنّى وجهة نظر مفادها أن الأدب والفلسفة وجهان لعملة واحدة، وأن السؤال هو الباعث على الدهشة والتحبير ورسم العالم وطرق الإقامة فيه، وهو قادح شهوة الكتابة في الذات المبدعة. ويضيف الديماسي “الأديب رسول حرف يمشي في مناكب الأرض، بوصلته بلوغ عوالم يتمناها ويرضاها، فيعيد صياغة المحايث صياغة تبعث في النفس طقوس الجمال والحياة والكدح والتحليق”، لذلك يعتقد أن المقدّس يدخل في دائرة التدبّر الجمالي شأنه في ذلك شأن السؤال السياسي والسؤال الجنسي، إذ يعدّ النصّ الأدبيّ في هذا الباب نصا مفارقا محلقا سابحا في ملكوت مخاطبة الذات الأخرى، المتقبل بعيدا عن الحديث القيمي الحالي.فوزي الديماسي: الأدب والفلسفة وجهان لعملة واحدة ويؤكد أنه حين تكون هناك مقاربة للفعل الإبداعي لا يمكن أن تكون مقاربة أخلاقويّة تخضع لثنائية الحلال والحرام أو المقدس والمدنس بأي شكل من الأشكال، إذ تعدّ عوالم الأدب عوالم مخصوصة لا علاقة لها بما هو واقعي. ويؤمن الديماسي بأنه “لا يمكن تناولها بأدوات تحليل قيميّة، والحكم لها أو عليها يكون من زاوية جمالية صرفة تخضع لسجلات غير سجلات الأعراف والتقاليد ووثوقية الرؤى”. ويفسر رأيه، حين يقول “الحديث عن الله أو عن قامات الدين، ليس هو الغاية في حد ذاته أدبيا، وإنما هو تناول لسؤال حارق تناولا يبعث على التفكّر والتدبّر وإعادة ترتيب البيت الفكري، ترتيبا يخضع لرؤى تبشّر بعوالم أخرى غير التي نحياها في الواقع المحجوج جماليّا”. وعن النص الأدبي وحديث المقدسات والتابو، يقول “الحديث عن المقدسات في النص الأدبي يدخل في خانة تشريح لمنظومة قيم تعفّنت وفي حاجة إلى التزكية وعرضه على محكّ المنشود، إذ الإنسان كما النهر يجري، يقتله ثابت القيم ويبعث فيه الحياة الترحال الفكري”. ويمضي بقوله “إن الحديث عن المقدّس حديث عن الباطني والمخفي وعن الجاثم على تطور رؤانا في قيعان الذات القلقة المضطربة الباحثة عن مصادر الحياة”. ومن جهة أخرى يعد الديماسي النص الأدبي نصا رمزيا بامتياز، ويعوّل على رمزيّة الأشياء في طرق تصريفها فنيا عكس التناول السطحي سواء كان التناول دينيا أو حضاريا أو تاريخيا للعمل والحكم عليه، والنص الرمزي في قول آخر “يعدّ طائرا محلّقا لا يمكن اقتفاء أثره، إلاّ إذا ركبنا فلك التأويل، لأن التعامل معه في سطحه لا يؤتي أكله ولا يكشف خباياه ومفاتنه وأسراره ودرره”.

مشاركة :