الأرض المحروقة الوصف الدقيق لخطة تنظيم الدولة الإسلامية القتالية في مواجهة القوات العراقية بالجانب الأيمن لمدينة الموصل، وعلى العكس فان التنظيم كلما خسر مزيدا من الأرض زادت مقاومته لأنه يقاتل ليموت. مرّ شهرٌ على بدء عمليات تحرير الجانب الأيمن التي دخلت مراحلها المعقدة، وليس من المفاجئ أن تكون المعارك ذات تكلفة عالية على المدينة وسكانها وكذلك القوات العراقية، بسبب طبيعة مسرح القتال وأساليب التنظيم التي اعتمدها في حرب الأزقة الضيقة والحارات القديمة. ما يعقد المهمة الأخيرة للقوات العراقية في الموصل أنها لا تقاتل جيشا نظاميا بالإمكان قراءة أفكاره وأسلوبه إنما تواجه تنظيما متطرفا سرعان ما يغيّر تكتيكاته وخططه ولا يتقيد بأي قانون أو نظام ولا يعير اهتماما للجانب الإنساني، وهذا ما أشار إليه الفريق الأول الركن طالب شغاتي رئيس قوات مكافحة الإرهاب العراقية في تصريح صحفي الأسبوع الفائت. كيف يقاتل المتطرفون؟ معلوم أن التنظيم يتبنى أسلوب المفارز المعرقلة، في الجانب الأيسر استخدم السيارات المفخخة التي يقودها انتحاريون كسلاح رئيس لإيقاف تقدم القوات العراقية، وقد أعلن شغاتي أن مجموع ما تم تفجيره من مفخخات حتى الآن نحو(870) لكن نسبة قليلة منها ربما العشرات فقط حتى الآن انفجر في الساحل الأيمن، بسبب استنزاف قدرات التنظيم والغطاء الجوي الكثيف إلى جانب الشوارع والأزقة الضيقة التي تقيد حركة المفخخات. المفارز المعرقلة في الجانب الأيمن اعتمدت بالدرجة الأولى على نشر عدد كبير من القناصين غالبيتهم من جنسيات روسية ودول آسيا الوسطى، ومقاتلين بأسلحة خفيفة ومتوسطة وانتحاريين بأحزمة ناسفة، هؤلاء يتنقلون بسرعة بين المنازل عبر فتحات تتيح لهم الحركة دون الخروج إلى الشارع. التنظيم اعد هذه الخطة مسبقا، فقد اجبر المدنيين على ثقب الجدران بين مساكنهم وفرض عليهم أن لا تقل أبعاد الثقب عن (100 سم) ارتفاعا وعرضا ليتيح لمقاتليه المرور بانسيابية من خلالها. سعد أغا احد سكان منطقة موصل الجديدة التي تم تحريرها قبل أسبوع قال لقد "رفضت ثقب جدران منزلي، فخرجوا غاضبين وتوعدوا أن يضعوا برميلا مفخخا أمام منزلي إذا لم ينفذ الأمر بعد ساعة. لقد ارهبوا عائلتي وأجبروني على الانصياع لهم". الفتحات التي فر من خلالها عناصر الدولة الإسلامية استغلها مقاتلو جهاز مكافحة الإرهاب العراقي لصالحهم، إذ اطل علينا مجموعة منهم وهم يمشطون الحي من المتطرفين واخبرونا انه تم تحريرنا، يضيف بابتسامة صفراء وهو ينظر إلى الفتحة التي ما زالت موجودة. ويبدو أن التنظيم يكتفي هنا بأسلوب الدفاع، فلم يشن هجمات مؤثرة كما كان يفعل في الجانب الأيسر ضد القوات العراقية التي استعادت حتى الآن السيطرة على أكثر من نصف مساحة الجانب الأيمن ، باستثناء القصف العشوائي على المناطق التي تخرج عن سيطرته. الأرض المحروقة طاعة لله سلاح التنظيم المتطرف الذي يعقد العمليات العسكرية هو المدنيون، إذ حرص الجهاديون على منع خروجهم من الموصل منذ سيطرته عليها في حزيران (يونيو) 2014 وأدخرهم لهذه اللحظة، ليكونوا وقودا للحرب. مبكرا اجبر المتشددون السكان المحليين على إخراج سياراتهم الخاصة إلى الشوارع لجعلها حواجز تعيق تقدم القوات العراقية، وعندما تقترب هذه القوات من أي منطقة فانه يقوم بحرق جميع السيارات في محاولة لتضليل طيران التحالف والطيران العراقي الذي يستهدفهم، ثمة المئات من السيارات المتفحمة مركونة في الشوارع حاليا وهذا بعض مشاهد الخراب في المناطق المحررة. احمد سعيد من حي الرسالة الذي تحرر قبل أيام، يقول وهو يشير إلى جثة منتفخة لأحد مقاتلي التنظيم ملقاة قرب منزله "هذا القذر دخل علينا وطلب قليلا من الوقود، وبدأ بإحراق سيارتنا وسيارات جيراننا". "طاعة لله .. طاعة لله" هكذا كان يردد هذا المتطرف وهو يشعل النار داخل السيارات، يقول سعيد متعجبا. وعندما يوقن التنظيم انه فقد أي منطقة، يبدأ بترحيل سكانها إلى مناطق أخرى خاضعة لسيطرته، وسعيد الحظ من يستطيع التملص منهم لينال الحرية، فلقد تم تكديس آلاف العائلات في المدينة القديمة (وسط المدينة) والأحياء الغربية، حيث باتت الجوامع والمدارس والمراكز الصحية وجميع البنايات مكتظة بالمدنيين، فكما يبدو التنظيم قرر أن يخوض آخر معاركه هناك. أم عامر تقول عبر الهاتف، أجبرونا على إسكان عائلة في منزلي بمنطقة (17 تموز)، جلبوها ضمن مئات العائلات من الأحياء الجنوبية رغما عنها، لقد صار في كل منزل من منازل الحي ما لا يقل عن عشرة أفراد وليس لدينا ما يكفي من أكل وماء. وتتساءل خائفة: لا نعرف كيف ستسير الأمور، الحرب باتت قريبة منا ونحن في نهاية المدينة، هل يرحلوننا نحن أيضا والى أين، فالقوات العراقية تطوق الموصل بالكامل لم يعد ثمة مجال للفرار. وما يعقد الأمر عدم وجود ممرات لخروج المدنيين، فالمتطرفون يشددون قبضتهم على المناطق الخاضعة لسيطرتهم رغم خسارتهم نحو 60 بالمئة منها، ومن يقبض عليه محاولا الفرار فانه يعرض نفسه لموت محتّم. عبد السميع، أب لستة أطفال قرر الهروب ذات ليلة، لكنه وقع في قبضتهم هو وأطفاله وزوجته، يقول بصوت مرتجف عبر الهاتف، لقد ضربوني بشدة واقتادوني ليطلقوا النار علي، توسلت إليهم كثيرا وكان أطفالي يصرخون، كانت بصحبتهم نساء من شرطة التنظيم قمن بتفتيش زوجتي فوجدن لديها هاتفا نقالا فجن جنونهم، اتهموني بأنني مقاتل في الجيش العراقي وقرروا قتلنا جميعا، لكن احدهم اعترض فأصر أن يطلقوا سراحنا ففعلوا. أعادونا إلى "ارض الخلافة"، قالها بتهكم وختم اتصاله معنا وهو يبكي كطفل، سأبقى هنا في المنزل وسط الحرب، نضع يداً على رؤوسنا خشية القصف وأخرى على بطوننا من الجوع، إما أن نموت بسبب الحرب أو أن ننال الحرية. التنظيم في وضع لا يحسد عليه إطلاقا، القوات العراقية تضيّق الخناق عليه كثيرا وهي تقترب جدا من الجامع النوري الكبير وسط الموصل حيث أعلن أبو بكر البغدادي قيام دولة الخلافة، وربما من هناك سيكون الإعلان عن نهاية هذه "الدولة" خلال أسابيع.(نقاش)
مشاركة :