الرسام اللبناني خرج عن إطار التكوين الشّكلي للوحة الدينية، وهو ما جعل من لوحاته مرايا تجريبية يرى الرسام من خلالها تفاصيل حياته وقد احتلت مكانا غير ذلك المكان الذي هي فيه.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/03/26، العدد: 10583، ص(10)]حبيب سرور رائد الحداثة الذي لم ير نتائجها لندن - قبله لم يغادر الرسم في لبنان غرف وقاعات الكنائس والأديرة وصفحات الكتاب المقدس. غير أن ما فعله حبيب سرور يتجاوز ذلك التحول الكبير في مفهوم الرسم حين نجح في تأسيس تقاليد فنية كان من أهم نتائجها ظهور جيل من الرسامين الذين سيقومون بوضع الأسس المتينة لما سيكون عليه مستقبل الرسم في بلد سينتقل إلى الحداثة في وقت مبكر قياسا بما شهده محيطه الإقليمي. ولو عرفنا أن من بين مَن درسوا على يديه فنانين من نوع مصطفى فروخ ورشيد وهبي وصليبا الدويهي إضافة إلى أنه كان أول مَن اكتشف موهبة جبران خليل جبران الفنية لأدركنا الأهمية القصوى للدور التاريخي والفني الذي لعبه سرور وهو يؤسس أول محترف فني في لبنان، وهو المكان الذي احتضن الكوكبة الأولى من الرسامين اللبنانيين. كان محترفه أول مدرسة لتعليم الرسم في لبنان. “رسام الحياة المدنية” لقب يستحقه حبيب سرور بعد ثلاثة قرون من الرسوم الدينية التي لم تكن هوية مَن ينفذها ضرورية، ذلك لأنها لم تكن تعبّر عن المزاج اللبناني بقدر ارتباطها بالحكايات الدينية. غير أن تحرّر سرور من الحكايات الدينية لم يبدأ من الطبيعة بل من الرسوم الشخصية. وهو ما جعله يستبدل الوجوه المتخيلة بوجوه واقعية، وجوه ستبقى من بعده لتشير إلى قوة المحاولة الفنية ودلالة البعد التاريخي الذي انطوت عليها فكرة الانتقال بالرسم من مرحلة وصف المعاني الدينية وتخيل الشخصيات المقدسة إلى مرحلة تكريس الحياة العادية من خلال وجوه بشر سيدخلون التاريخ بقوة الرسم. معلّم الرسم الأول في لبنان كان أوّل من رسم الوجوه الشخصية وأيضا الطبيعة الصامتة. في سن العاشرة انتقل حبيب سرور (1860 ــ 1938) برفقة أهله إلى روما ليبقى هناك إلى أن أتم دراسته الأكاديمية. من هناك انتقل إلى مصر ليشهد مرحلة النهضة الفنية التي ظهرت سماتها من خلال مدرسة الإسكندرية. عاد إلى لبنان ليعمل أستاذا في مدرس الصنائع اللبنانية ببيروت. شكل وداود القرم وخليل صليبي الجيل الفني الذي أرسى قواعد الرسم الاتباعي على أسس الالتزام بقوانين الحرفة والموضوعات غير أنه انفرد بقدرته الاستثنائية على أن يتحرر من تلك القوانين وهو ما ألقى بظلاله على طريقته في تعليم الرسم والتي ورثها عنه جيل من الرسامين كانوا روادا للحداثة الفنية.رسام الحياة المدنية لقب يستحقه حبيب سرور بعد ثلاثة قرون من الرسوم الدينية التي لم تكن هوية من ينفذها ضرورية، ذلك لأنها لم تكن تعبر عن المزاج اللبناني بقدر ارتباطها بالحكايات الدينية من محترفه خرجت رؤى المحدثين الأوائل، بالرغم من أنه لم يقطع صلته نهائيا بالرسم الديني. هناك كنائس في لبنان تضم عددا من رسومه. غير أن أكثر ما عُرف عنه اهتمامه بالرسوم الشخصية التي صوّر من خلالها وجوه كبار سياسيي عصره ووجهائه. فكانت تلك الرسوم ومعها رسوم الطبيعة الصامتة بمثابة تحية للحياة التي استشعر إقبالها على التحول. استعادة الواقع خياليا لأنه تعلّم الرسم على أصوله ونهله من منابعه الأصلية في روما فإن حبيب سرور حرص على أن تكون لوحاته مرآة لما تعلمه من فنون الحرفة والإتقان فكانت ممارسته للرسم في محترفه الشخصي بمثابة درس تعلم من خلاله الكثيرون الكيفية التي يتمكن من خلالها الرسام من فهم المعادلة التي طرفاها الخيال والموهبة بحيث لا يعلو أحدهما على حساب الآخر. وبغض النظر عن الموضوع فإن السعي إلى الكمال كان هدفا في حد ذاته. وسواء رسم حبيب الأم المقدسة أو امرأة عارية فإنه كان مثاليا في تلمس الطريق إلى الطهر والعفة، فلم تكن صورة المرأة العارية لتنطوي على شيء من الإثارة بل ظل الجمال يدثر تلك المرأة بعفته. يرى المرء لوحته “معصرة الزيتون” فيكتشف أن خروج الرسام الفعلي إلى الحياة لم يكن ميسرا. لقد تواطأ الخيال مع الموهبة لإنجاز صورة هي من صنع إلهام النظر المستعاد خياليا داخل المحترف. كل المشاهد الخلوية التي رسمها سرور هي في حقيقتها مشاهد مستعارة من حياة سابقة. يرسم الرسام ليتذكر. خيال يده يحمل الكثير من ذكريات عينه. وهو ما لا تزال لوحات الرسام اللبناني تذكّر به. مثله في ذلك مثل أيّ رسام تقليدي فقد كان الرسم بالنسبة إليه هو محاولة لإعادة إنتاج الجمال الطبيعي بطريقة فنية. وهو ما جعله يقدم الشبه على التعبير في الوجوه التي رسمها. وبالرغم من أنه تعلم الرسم في زمن صعود الانطباعية في باريس فإن روما المحافظة قيدت طريقته في النظر إلى الرسم بقوانينها المحكمة.رسوم بمثابة تحية للحياة لذلك يمكن النظر إلى طريقته المتحررة في تعليم الرسم باعتبارها الحدث الأهم في حياته. ذلك لأنها فتحت الباب للتفكير بولادة نوع جديد من الرسم. شيء من الاستشراق تسلّل إلى رسوم سرور. هو ابن تقاليد عصره. يومها كانت الحياة شيئا والرسم هو شيء آخر. لم تكن الواقعية فكرة مقبولة في الرسم، بالرغم من أن الرسامين يدّعون الإخلاص إلى الواقع دفعا لشبهة الكذب. وهو ما شكل غطاء نظريا لرسوم المستشرقين التي تأثر بها سرور وصار يسعى إلى استعادة تقنياتها في صناعة مشاهد زائفة، كانت بالنسبة إليه بمثابة الحصن الذي يحفظ للرسم استقلاله. لقد ترك الرسم الديني أثره في الطريقة التي اتبعها سرور وهو يستعيد مشاهد الحياة. رسومه التي خلت من الطابع الديني كانت عبارة عن إسقاطات دنيوية على تخطيطات سبقتها إلى الحياة على سطح اللوحة وهي تخطيطات مستلهمة من تكوينات الرسوم الدينية. خرج سرور عن إطار التكوين الشّكلي للوحة الدينية التي سبق له أن تدرب عليها زمنا طويلا. وهو ما جعل من لوحاته مرايا تجريبية يرى الرسام من خلالها تفاصيل حياته وقد احتلت مكانا غير ذلك المكان الذي هي فيه. تعاليم هي أشبه بالوصايا على مستوى تأثيره الفني فإن سرور كان حالة خاصة. في هذا المجال لا أجازف حين أقول إن رسومه ليست هي العامل الأساس الذي أكسبه أهمية استثنائية دون سواه من أبناء جيله. لقد اكتسب تلك الأهمية من التعاليم التي حملها تلاميذه مثل وصايا ثمينة. فعن طريق تلك التعاليم الذي تزاوج بين التمسك بالحرفة والحنوّ على الخيال والتماس الطريق إلى الفن عن طريق الحرية تغير الرسم في لبنان. ذلك التحول الذي صنعه تلاميذ سرور هو ما صنع ظاهرته الفريدة من نوعها في تاريخ الفن اللبناني. فلو استعدنا تجارب أهم تلاميذه وهم الثلاثة مصطفى فروخ ورشيد وهبي وصليبا الدويهي لعرفنا المدى الواسع الذي فتحه سرور وهو يسعى إلى إخراج الدرس الأكاديمي من طابعه التلقيني. ما لم يفعله بنفسه فعله تلاميذه بقوة إلهامه وحيوية إيحائه. كان حبيب سرور رائدا لحداثة فنية لم ير نتائجها بنفسه.
مشاركة :