القاهرة: «الخليج» مضى عشرون عامًا على إصدار الطبعة الأولى من ترجمة أحمد حسان لهذه المختارات الشعرية الشاملة، لبرتولت بريخت، وقد تزامنت هذه الأعوام مع نهاية قرن وبداية آخر، مع تحول شبه كامل في الروح العامة للعصر بأسره، فلم يمضِ القرن العشرون، قرن الجماهير الحاشدة والآمال العريضة، إلا وقد خلف تركة ثقيلة من الإحباطات والهزائم واليأس، من العثور على صيغة أكثر عدلًا وإخاءً لحياة البشر، وبدا أن مجمل تاريخ البشرية قد وصل إلى طريق مسدود، يقف فيه الفرد وحيدًا في عزلة موحشة. وكما يوضح حسان في مقدمته للمختارات فإنه إذا كان بريخت مغرمًا بالنظر إلى حاضره من منظور المستقبل، يملؤه الرجاء أن تؤدي لحظات التحول الكبرى التي شهدها جيله، الأعنف والأوسع مدى في التاريخ الحديث (حربان عالميتان، وصعود الفاشية، وظهور معسكر دول الاشتراكية الواقعية) إلى مسار مختلف أكثر إخاء وعدلا، فإن النظر إلى الوراء من نقطة حاضرنا سرعان ما يؤدي إلى نتيجة بدهية هي أن القرن العشرين قد خيب أعز آماله في حياة إنسانية كريمة للجميع. يراهن الكتاب على كيفية النظر إلى عمل مبدع ارتبط بتحولات واقعة في لحظات حاسمة، رافعا راية الأمل في ساحة المجزرة، ضمن الظلم أن يتخيل أن حياة وعمل بريخت وغيره ممن انتزعوا من جذورهم، وصاروا ضحايا للقمع والبؤس والملاحقة والقتل، كانت مقدمة لما نعانيه، لأن حيواتهم تجسد أسمى مقاومة للجور، وأقوى انحياز لحلم البشرية القديم في العدل والحرية.لكن آخرين سيجدون في تغير الظروف مناسبة للاقتراب أكثر من جوهر الشعر، المتعدد الوجوه، المصطبغ بروح عصره، ما دام يرسم لوحة لمشاعر وأحلام واقعة، ولن يكون هذا صعبا إزاء شعر صانع للغة وأستاذ للحرفة، سعى إلى التقاط كل تلاوين مشاعر وتحيزات معاصريه، وإلى توسيع حدود التعبير كي تتسع لغته لكل ما يود حشده فيها من ظلال جديدة.يرى المترجم أن هذا الكتاب لا يزال قادرا على إثارة الدهشة لدى جمهور مختلف، رغم ما يثيره من شجن لدى من عايشوا المناخ الذي ينقله، وقد يكون من بين الانسياب أنه شهادة حية على لحظات تحول تاريخية كبرى، وعلى كم المشاعر التي صاحبتها والآمال التي حركت أبطالها والعذابات التي عانوها، يكفي أن بريخت، الذي فر من جحيم النازية، قطع دورة كاملة حول الكرة الأرضية، وصولا إلى الولايات المتحدة، ليجد نفسه على منصة تحقيقات اللجنة الماكارثية، وعاد من منفاه إلى وطنه ليجده مدمرا، منقسما، كانت التحولات الكبرى، تشكل نسيج حياته اليومية واستجاباته الحميمة، ورغم وطأة الظروف لم يفرط أبدا في استغلاله الفكري في عصر غلبة الأجهزة البيروقراطية على الحركة اليسارية.ولم يجعله انخراطه في الدفاع عن قضايا مصيرية كبرى يردد شعارات مصمته ويحول بصره عن الاهتمام بما يطلق عليه بشكل قاصر تعريف الشكل، وقد اتهم فعلا بالشكلانية، لكنه مضى يطور أشكالا جديدة، توسع حدود حرية التعبير، أصبحت جزءا جوهريا من أدوات الكتابة الألمانية المعاصرة، ولا يزال عمله محملا بميول واتجاهات ورؤى تجديدية تالية عليه، لا يزال تأثيرها إلى الآن.لهذه الأسباب - كما يقول أحمد حسان - لا يزال عمل هذا المبدع الكبير، وفي مركزه شعره، قادرا على البقاء كما تمنى، رغم تغير الظروف وروح العصر، وربما ساعد نشره الآن في إعادة طرح القيم الإنسانية التي ينطوي عليها من جديد وإحيائها في سياق استعادة البشر للمبادرة في السيطرة على حياتهم وانتزاع حقهم في السعادة على هذه الأرض.بريخت، ليس غريبا على القارئ، فقد تخطى مبكرا حدود وطنه ليصبح سندا وإلهاما للمضطهدين في كل مكان، وكابوسا يطارد العتاة، سارع النازيون إلى إحراق كتبه، ضمن حملتهم لتجريم المعارضة، لكن معيارا واحدا أكسبه أهميته البالغة لدى صانعي التاريخ وأعدائه على السواء، هذا المعيار يكشفه فالنر بنيامين قائلاً: «إن بريخت ظاهرة صعبة، يرفض أن يستخدم بحرية موهبته ككاتب، ومن بين جميع من يكتبون في ألمانيا فإنه الوحيد الذي يسأل نفسه أين يجب أن يستثمر موهبته، ولا يستثمرها إلا حين يكون مقتنعا بضرورة ذلك، مخيبا كل مناسبة، لا تتفق مع هذا المعيار، إنه يعرف أن الطريق الوحيدة الباقية أمامه هي هذه: «أن يتحول إلى نتائج مصاحبة لعملية بالغة التشعيب لتغيير العالم».تتسع موهبة بريخت لتضم مجالات عديدة، فهو المفكر والناقد والشاعر ومؤلف ومخرج ومنظر المسرح، والروائي وكاتب السيناريو، والسياسي بالضرورة، فنتاجه يهدف إلى تغيير العالم، لذا بدا له ما هو سياسي في عمله أمرا طبيعيا، لكن اسمه يرتبط في أذهاننا، في المقام الأول، بالكتابة المسرحية ونظرية الدراما، لكن العين الفاحصة لا يمكن أن تخطئ الشاعر، الذي اختار أن يختبئ خلف كاتب المسرح.
مشاركة :