أسهم رحيل عدد كبير من الأندلسيين إلى بلاد المغرب العربي عقب سقوط غرناطة آخر الممالك الإسلامية في الأندلس سنة 1492م؛ في بناء حضارة زاهرة, ما زالت تحمل الطابع الأندلسي إلى اليوم، في مختلف مظاهرها المادية والثقافية، من فن العمارة والبناء وأساليب الزراعة، والصناعات الحرفية وغيرها، التي ازدهرت هناك ازدهاراً كبيراً. وتعد مدينة القليعة التي تقع في ولاية تيبازة الجزائرية، وتبعد 30 كيلو متراً عن الجزائر العاصمة، إحدى المدن الأندلسية التي أسست عن طريق المهاجرين من الأندلس. وعلى الرغم من مرور أكثر من خمسة قرون على هجرتهم من الأندلس، لا يزال أهالي القليعة الجزائرية يحافظون جيلاً بعد جيل على هويتهم الأندلسية ويتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم التي نقلوها معهم من الأندلس. تأسيس مدينة القليعة تذكر المصادر التاريخية أن مدينة القليعة كانت في البداية قرية صغيرة، تؤوي بقايا من النازحين الذين قدموا من مدن أندلسية كقشتالة وأشبيلية وغرناطة وبلنسية، حيث أسس المدينة حسن باشا بن خيرالدين بربروس سنة 1550م، إبان فترة الحكم العثماني لبلاد المغرب العربي، حيث نزحت أكثر من 300 أسرة من أهل الأندلس ينتمون إلى طبقات متوسطة وفقيرة، معظمهم من أصحاب المهن والحرف وصغار التجار. وتضيف هذه المصادر التاريخية، أن تسمية المدينة بهذا الاسم، إنما هو تصغير لاسم القلعة إحدى المدن التي كانت موجودة قرب غرناطة خلال فترة الحكم الإسلامي لبلاد الأندلس، الأمر الذي يعطي دلالة واضحة على طبيعتها العسكرية التي أرادها مؤسسها الباشا حسن لتكون ركيزة في المنطقة لمواجهة القبائل البربرية بجبال شنوة، وتعد مدينة القليعة الآن مثالاً حياً للمدينة الأندلسية الخالصة، التي مازالت تحتفظ إلى اليوم بطابعها الأندلسي الأصيل، حيث يسعى أحفاد المهاجرين الذين أتوا من الأندلس إلى الحفاظ على هويتهم، والتأكيد على جذورهم الأندلسية العميقة بالعديد من الصور والأشكال. الاحتفاء بالعمارة الأندلسية لقد عمل أهالي القليعة منذ قدومهم، إلى بعث الحياة من جديد في الحضارة الأندلسية الغابرة، من خلال العديد من الأمور المهمة, وهي: - تشيد وبناء البيوت والمنازل على النسق المعماري الأندلسي، هذا النسق الذي يتميز بأجوائه المستوحاة من الحضارة الإسلامية، التي سادت الأندلس بمشغولاته الخشبية وألوانه المضيئة، ويظهر ذلك جلياً في بقايا البيوت والمنازل العتيقة التي مازالت تحمل أطلال الحضارة الأندلسية، إلى اليوم لتكون خير شاهد على عظمة هذه الحضارة. - بناء المساجد ومن أهمها المسجد العتيق، الذي يقع وسط المدينة, ويتميز بطرازه المعماري العثماني بما يحمله من قباب إسطنبول، وأنواع القرميد الذي اشتهرت به مدن الأندلس، وكذلك مسجد سيدي علي مبارك، هذا إلى جانب العديد من الزوايا التاريخية المنتشرة في شتى أرجاء المدينة. - الاحتفاء بالنخب العلمية والأعلام الأندلسية، أمثال سيدي علي مبارك، أحد العلماء البارزين، من أصل أندلسي، إذ حظي بتقدير واحترام قبائل متيجه، والشيخ اليعقوبي، والشيخ الرابحي، وذلك تخليداً لذكراهم واعترافاً بدورهم وفضلهم الكبير في نشر العلم والمعرفة وحمل مشاعل الحضارة. إحياء الحرف التقليدية يعمل أهالي القليعة على إحياء الحرف الأندلسية التقليدية، والصناعات الحرفية والفنية الموروثة، والتي نقلها أجدادهم معهم من الأندلس. وتأتي في مقدمة هذه الصناعات صناعة الأثاث المنزلي بالخيزران، هذه الصناعة التقليدية الأندلسية التي حافظ عليها أبناء القليعة من جيل إلى جيل، وحازت على إعجاب السياح من شتى البلدان، وساهمت في الحفاظ على الطابع الثقافي والتراثي للمدينة، هذا إلى جانب صناعة أخرى مرتبطة ارتباطاً كبيراً بالسيدات، وهي الشبيكة أحدى الفنون التطريزية الشهيرة. وتشكل هذه النشاطات والصناعات الحرفية والفنية المتنوعة مصدر رزق للكثير من أهالي القليعة الذين فضلوا الاعتماد على أنفسهم في كسب قوتهم، على الرغم من قلة المواد الأولية التي تستخدم في هذه الصناعات اليدوية. الموسيقى والغناء يعمل أهالي القليعة على حفظ مورثهم الفني من الموسيقى والغناء، ويظهر ذلك جلياً من خلال العديد من المدارس الموسيقية والغنائية، التي تزخر بها مدينة القليعة، بهدف الحفاظ على التراث الموسيقي والغنائي الأندلسي ونقله للأجيال الجديدة. ويتضمن ذلك قصائد شعرية نظمها أشهر شعراء الأندلس، وفي مقدمتهم أحمد بن عمار الجزائري، المفتي الشاعر الرحالة الذي توفي سنة 1206هجرية - 1791 ميلادية، وتعود أصوله للعائلات الأندلسية المهاجرة إلى الجزائر، بعد خروج العرب والمسلمين من الأندلس، والذي جمع بين الثقافة الأدبية والدينية، كما ظهر في مؤلفاته، والتي من أشهرها رحلته الحجازية المسماة (نحلة اللبيب في الرحلة إلى الحبيب). ويولي أهالي القليعة الأمور الفنية اهتماماً كبيراً للحفاظ على التراث الأندلسي، فنقلوا الموشحات الأندلسية الشهيرة والزجل، وأدخلوا آلات موسيقية أندلسية إلى هذه المدارس مثل العود والربابة والكمان، وتعد مدرسة الغرناطية الموسيقية، خير شاهد ودليل على اهتمام أهالي القليعة بإحياء تاريخهم الموسيقي والغنائي، ومنذ أن أنشئت هذه المدرسة في السابع من مارس من عام 1972 ميلادية، كان الهدف منها تعليم الموسيقى الأندلسية وأحياءها في نفوس الأبناء والأحفاد، فجميع المنتسبين لهذه المدرسة من أحفاد الأندلسيين المقيمين في المدينة، وهؤلاء الأطفال من مختلف الأعمار يبدون شغفاً كبيراً بهذا الفن الأندلسي العريق, خاصة أن الفن والطرب الأندلسي حافل بالعديد من قصائد المديح والغزل ووصف الطبيعة، والرثاء وأشعار الحروب، وسعت هذه المدارس الموسيقية في مدينة القليعة، منذ وجودها إلى خدمة الحضارة الأندلسية والفن الأندلسي، حيث نقل هذا اللون الموسيقي إلى الأجيال المتعاقبة من أجل الحفاظ على الذاكرة الفنية والتراثية لأهالي القليعة، وربط الأجيال الجديدة بتاريخهم وتراثهم الفني. مقهى السوماتي لم ينس أهالي القليعة المشروبات، التي يتم تحضيرها على الطريقة الأندلسية التقليدية، باستخدام أدوات نحاسية قديمة يعود تاريخها إلى القرن 16 للميلاد، ويوفر ذلك مقهى السوماتي، هذا المقهى الذي ينقل تقاليد الأندلس، ويحمل إلى اليوم الطابع الأندلسي العتيق، الذي يطغى عليه طابع المورسك، حيث يحضر القهوة والشاي، على فرن تقليدي متقد بالفحم، يتجاوز عمره خمسة قرون، هذا إلى جانب البقراج والغلاية والسنيوة، وهي الأباريق النحاسية القديمة والمشهورة بمدينة القليعة، التي تقدم فيها القهوة التركية الأصلية على كراسي وطاولات خشبية مشكلة من الفولاذ المزخرف تكسوها طبقات من الرخام المنحوت، قبل عشرات السنين، ويرتاد هذا المكان التقليدي الكثير ممن يستأنسون بالمكان، الذي أصبح ذاكرة حية وثرية لسكان المدينة. الحلويات الأندلسية كما تشتهر مدينة القليعة، بمحافظتها على إنتاج معظم أنواع الحلويات، التي يتم تحضيرها لحفلات الزواج والمناسبات الاجتماعية المميزة، إذ برعت حفيدات الأندلسيات اللاتي هاجرن إلى المدينة قبل خمسة قرون في إنتاج وصناعة الحلويات التقليدية الأندلسية الشهيرة، وتتخذ هذه الحلويات أشكالاً عدة تعكس بمهارة الزخرفة الأندلسية، فمنها ما هو على شكل هلال، ومنها ما هو دائري، ومعين ومثلث، مثل حلوى الصمصم المحشوة باللوز، وعجينة الواء التي يتم قليها وتزيينها بالعسل، كما أن بعض الحلويات تتميز بإشكالها التي تعبر عن المناسبات الاجتماعية، فمثلاً حلوى شاراك تتميز بشكلها الهلالي، لأنه يتم تحضيرها خصيصاً عشية عيد الفطر، في أثناء ترقب إطلالة هلال العيد، ويفخر أهالي القليعة بحلوياتهم التراثية التي تميز موائدهم، في مختلف المناسبات الاجتماعية، وترسيخ تقاليد المطبخ الأندلسي العريق والمتوارث عن أجدادهم جيلاً بعد جيل. وفي النهاية نقول لم ينجح الزمن بقطع الأواصر العاطفية، التي جمعت بين الأندلسيين وموطنهم الأصلي السابق، فخروجهم من الأندلس سمح لثقافتهم بالانتشار عبر بلدان المغرب العربي، واليوم يستمرون في العيش في تلك البلدان، حيث يساهمون في إغناء ثقافتها، والثقافة العالمية بأسرها.
مشاركة :