الحمامات مدينة تونسية تنام على البحر بأحلامها بقلم: فاروق يوسف

  • 4/2/2017
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

في الحمّامات يفهم المرء ما معنى النوم على البحر. يبدأ ذلك الحدث بملمس الصخور على القدمين لينتهي بحمّام بخار سياحي وما بين المشهدين هناك مدينة عامرة بأسواقها.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/04/02، العدد: 10590، ص(10)]الحمامات يغادرها المرء فيستيقظ من نومه تونس – في "صدر بعل" النزل الذي أقمت فيه يمكن للمرء أن يشكل فكرة واضحة عن المشروع السياحي الكبير الذي بدأ إنشاؤه نهاية ثمانينات القرن الماضي وأطلقت عليه تسمية حمامات الياسمين ليكون امتدادا للحمامات إحدى مدن الساحل التونسي التاريخية. حياة أكثر مما ينبغي في تلك البقعة الساحرة التي يمتزج فيها هدير البحر بضوء الشمس تبدو الحياة مسلية بقدر ما هي غير واقعية بسبب رخائها ويسرها وترف متطلباتها. إنها حياة أكثر مما ينبغي. ولأن صدر بعل فندق نخبوي (هناك فنادق في البقعة ذاتها أقل نخبوية) فإن الذهاب إلى المدينة القديمة ضروري من أجل رؤية المكان الذي سبق لابنها عبدالرزاق الساحلي أن استلهم علاماته جماليا من خلال رسومه. الساحلي هو ابن الحمامات الذي ذهب بأسرارها الجمالية إلى الرسم. لقد عثر عليها في يقظته الحافلة بالأحلام وقدمها إلى العالم ممسكا برؤى بُناتها الجمالية. إنها لقيته التي لا تزال تكتظ بالأسرار.صناعة الفخار فن تتوارثه الأجيال في الجمعية التي حملت اسمه يمكنك أن تشرب الشاي التونسي على السطح وتنظر إلى البحر بعينيه. الوفاء له هو جزء من وفاء شابات وشبان للمدينة التي أنجبته وأحبته. لقد وهب الساحلي مدينته ذريعة أخرى للتماهي مع غموضها الشعري. فمن خلال ما التقطه من صور للمدينة لا يمكن أن تُرى بعين غير عينه يمكننا أن نقبل بالمتاهة التي تقترح علينا دروبها السير من غير هدف، سوى ملاحقة تلك الروح السحرية التي تحلق بالأشياء من حولنا بجناحيها. أبواب المتاهة الثلاثة كانت أرواح كائناته ورموزه ترافقني وأنا أنصت إلى هذيان الحجارة وهو يمتزج بوقع خطواتي. أتأمل أسوار المدينة العالية من على شاطئ البحر القريب منها فيُخيل إليّ أن حراس الأبراج تقلقهم طريقتي المريبة في النظر. لا يزال هواء القرن التاسع الميلادي يوم بنيت تلك الأسوار في حقبة الأغالبة وبني زيري باردا. لقد شيدت المدينة بطريقة محصّنة تحميها ممّا يمكن أن يحمله البحر إليها من أنباء سيئة. لا يزال الدخول إليها صعبا إلا من خلال أبوابها وإن وقعت ثغرات لا يعرفها سوى سكانها. الأبواب المفتوحة اليوم دائما كانت تغلق في الليل وفي وقت صلاة الجمعة. كنت أقف أمام باب البلد وهو باب السوق حين اقترب منّي شاب. حياني وقال لي بصوت منخفض “هناك مطعم في الأعلى. إنه مشهد ساحر” وابتعد. التونسيون ليسوا كسواهم في الترويج لبضاعتهم. يكتفي الواحد منهم بجملة ولا يتبعك. نظرت إلى حيث أشار. كان المنظر رائعا فعلا ولكن علاقتي بأغذية السوق منعتني من الاستجابة لندائه. اخترت أن أمشي على الساحل لأدخل المدينة من باب البحر. لم يكن يفصل بين أسوار المدينة والبحر سوى رصيف ضيق من الحجارة الضخمة التي هي الأخرى تعد القادم بعمل شاق من أجل الوصول إلى المدينة.تلال من البرتقال تلألأ في شوارع المدينة يتلمّس المرء وهو يمشي طريقه بحذر وبطء. فبالرغم من أن المشي ليس آمنا فإن عليه أن ينظر إلى جهتين في الوقت نفسه لئلا تفوته لحظة ساحرة. عن يساره البحر بسفن غزاته وعن يمينه الأسوار برماح حراسها. تمتزج الجغرافيا بالتاريخ حتى يُخيل للمرء أنه قد وصل إلى مكان يقع خارج الزمن كما نعرفه. من باب البحر إلى باب قبلي وهو الباب الثالث هناك مسافة هي عبارة عن متاهة من الأزقة الضيقة التي تتسع لمرور شخصين فقط كان عليّ أن أخترقها مفعما بدهشة مَن يضع كل حواسه في سلة واحدة. تونس الحقيقية ليست هنا ينساب المرء برقة وخفة وهو يمشي بين تلك الأزقة. بعد باب البحر مباشرة تقع جمعية عبدالرزاق الساحلي في زقاق صغير يمكن أن يخرج بك إلى البحر ثانية. الجمعية التي هي نوع من التذكير الوفيّ برسّام المدينة ليست سوى قاعة عرض تجريبية صغيرة، غير أن سلّم المبنى يقود إلى سماء رائعة. “سترى من هناك البحر كما لم تره من قبل” تقول لي المشرفة على القاعة وهي تقدم لي كأس شاي تونسي. “لقد رأيتك هناك. هل أنت رسام؟” يقول لي بائع الخزفيات وهو يسعى إلى استدراجي لدخول دكّانه الصغير الذي اكتشفت في ما بعد أنه الطابق الأرضي من البيت الذي يقيم فيه. المدينة التي صارت مع الوقت واحدة من أكثر الجهات في الأرض جذبا للسائحين اختلط فيها الباعة بالسكان الأصليين. وقد يكون الباعة من سكانها الأصليين. لقد طبعت السياحة الحمامات بطابعها الذي بقي إلى حدّ ما نزيها ولم يلوّثها. أسمع الأذان خفيضا فأعرف أني أقف عند باب مسجد المدينة الذي يبدو متواضعا بعمارته. إنه جزء من المتاهة، علامة يمكن أن يهتدي المرء من خلالها إلى طريقه التي تقود إلى السوق. لكن يمكنك أن تفلت من السوق التي تكتظ بالبضائع السياحية التي يغلب عليها الطابع الصيني. تونس الحقيقية ليست هنا. وهو ما جعلني أستعيد مشهد بائع الخزفيات الأصيلة. فالحمامات تابعة لولاية نابل المشهورة بفخارياتها.العيش في الحمامات نوع من الحلم النائمة على البحر ينتبه المرء إلى إيقاع خطواته. كان هناك شيء من الانسجام الرياضي مبعثه الشعور بتأثير الزخرفة. هذه مدينة عربية-إسلامية يقع المرء في غرامها لما تبعثه في نفسه من طمأنينة وسلام. غير أن الحمامات لم تكن كذلك دائما. اسمها يشير إلى كثرة الحمامات التي بناها الرومان فيها. وما صدر بعل سوى الأخ الشقيق لحنبعل ابن قرطاج الذي هدد روما ذات يوم. غير أن الحمامات كانت أيضا فينيقية قبل أن تحتضن الرومان. طبقات من الأرض يمشي عليها المرء وهو يسعى إلى اختصار المعرفة بنظرة إلى البحر الذي تعيش كائناته في عالم آخر. هو العالم الذي أوحى لعبدالرزاق الساحلي اختراع عالمه المليء بالتضادات التي تعيش صلحا داخليا، هو انعكاس لذلك الصلح الذي تعيشه المدينة التي توصف دائما بالمدينة النائمة على البحر. في الحمّامات يفهم المرء ما معنى النوم على البحر. يبدأ ذلك الحدث بملمس الصخور على القدمين لينتهي بحمّام بخار سياحي وما بين المشهدين هناك مدينة عامرة بأسواقها. لقد رأيت تلالا من البرتقال في شوارع المدينة لم أر لها مثيلا في حياتي. كما لو أن تونس الخضراء قد وهبت تلك المدينة سمة الخروج إلى البرتقالي. في نزل "صدر بعل" جربت النوم على البحر برفقة برتقالة حيّة. لقد امتزجت حينها الأصوات بالصور وبالروائح في خيالي فلم تعد الشمس إلا شاهدا على معجزات البحر التي كانت الحمامات واحدة منها. "كن وحيداً" سيُقال للمرء هناك "لأنك تحلم" وهو قول يقترب من الحقيقة. ذلك لأن العيش في الحمامات هو نوع من الحلم حتى يظن المرء أن سكان تلك المدينة هم مجموعة من النائمين. حين يغادر المرء المدينة يستيقظ من نومه.

مشاركة :