هارليم أمُّ أمستردام التي تنام مبكرا بقلم: فاروق يوسف

  • 8/27/2017
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

المدينة الهولندية تشبه بائع الحقائب الأرستقراطي من جهة أنها لا تنتظر أحدا، ما من شيء فيها يوحي بأنها متلهفة بطريقة استعراضية للقاء زوارها ولكنها لم تكن متجهمة.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/08/27، العدد: 10735، ص(10)]هارليم كما لو أنها صنيعة حلم لندن - قبل ساعتين كنت نائما مثله تماما. مثل ذلك الرجل الذي ما إن جلس على المقعد الذي أمامي في مقصورة القطار حتى راح في غيبوبة. صرت أفكر في النوم وأنا أحاول أن أثبت نظري على مشاهد ريفية فاتنة كانت ما إن تتلاشى حتى تترك في أعماقي أثرا ناعما، هو أشبه بخفقة جناح تكسر بزرقتها خط الأفق. لقد ذهب الرجل في نومه بعيدا. كانت عيناه ترمشان. ربما هو الآن يقيم حوارا مع واحدة من طاحونات الهواء التي تعج بها أرياف هولندا. لم يكن دون كيخوته استثناء. في النوم ترقى الطبيعة إلى مستوى قوانينها الداخلية فتمتزج عناصرها لتتبادل الأدوار: حجر على هيئة عصفور، شجرة تصف لأوراقها تفاصيل رحلتها من الجنة، فيما يكون هذا الرجل النائم أمامي قد رأى على صفحة البحيرة وجه حبيبته التي سيجدها واقفة في محطة هارليم بعد عشرين دقيقة، هو الوقت الذي يستغرقه الذهاب إلى تلك المدينة النائمة من العاصمة أمستردام. أجمل العواصم الصغيرة كانت هارليم قد ملأت رأسي أحلاما، فيما كنت أحاول وأنا نائم أن أحصي خطواتي التي سألقيها ذهابا إلى مركز المدينة الصغيرة التي تبلغ مساحتها 32 كيلومترا مربعا ولا يتجاوز عدد سكانها 150 ألف نسمة، ومع ذلك فإنها لم تتخلّ لأمستردام عن موقعها الإداري الذي هو تكريس لمكانتها التاريخية: عاصمة لإقليم شمال هولندا.أوروبا العتيقة تقع في هارليم. أوروبا التي كانت تفكر منفردة بمصيرها ولا شيء آخر. ويمكن للمرء أن يتوقع أن هارليم بالرغم من قربها من العاصمة الاتحادية (أمستردام) لم تكن مدينة مرغوبة بالنسبة إلى اللاجئين القادمين من الصومال أو العراق والذين تعج بهم مدن أخرى مفارقة يمكن للمرء أن يستوعبها ما إن يجلس في الساحة المركزية للمدينة الهادئة، هناك حيث يقوم الباعة المتجوّلون بعرض بضائع ليست رخيصة من جهة قيمتها النوعية بأسعار تبدو منخفضة مقارنة بأسعارها الأصلية، حتى ليشكّ المرء إذا ما كانت تلك البضائع زائفة. نظرت إلى بائع الحقائب النسائية الذي كان يجلس على كرسيّ بعجلات فأدركت أنه لم يكن مكترثا بمشهد النساء اللواتي كن يقلّبن الحقائب، فيما يدور في رؤوسهن الجميلة السؤال نفسه الذي دار في رأسي. لن تجرؤ واحدة منهن على سؤاله. فالرجل يبدو مهابا، على قدر لا يخفى من الشاعرية. لم يكن بائعا تقليديا ليُسأل عن بضاعته. ربما يكون حفيدا لأحد نبلاء المدينة. من المؤكد أنه كان يعرف أنه يهدي ما يبيعه إلى نساء سيكتشفن في وقت لاحق أن الرجل الذي ربما لن يلتقيهن مرة أخرى قد خبّأ في قلب كل حقيبة درسا خفيفا في الكرم، يشبه إلى حد كبير كرم هذه المدينة التي دخلت إلى القرن الثاني عشر مدينة مكتملة، فيما كانت المدن من حولها والتي صارت في ما بعد عواصم كبرى مجرد قرى تتقاتل فيها الخنازير. اللاتينية لا تزال لينة في الطريق من محطة القطار إلى مركز المدينة جذبتني الأزقة الجانبية فصرت أتنقل بينها. يسلّمني الزقاق لأخيه في رحلة هي أشبه بالدوران في متاهة لا تنتهي. كادت حواسي تبكي. فهل هذه مدينة للعيش أم أنها مجرد تجسيد لأفكار شكلية عن بلاد خيالية قد لا يقع منها شيء على سطح الواقع؟ قلت لزوجتي “لننس الواقع″. كانت أواني الزهر مطروحة في الشارع. تذكّرت أحياء دمشق القديمة. رأيت دمعتي في مرآة خيالي. “لن ترها بعد اليوم”. خرجت امرأة من باب ضيق في بيت صغير، حاملة إبريقا كبيرا وصارت تسقي النباتات. لن أصدّق. هي أليس وقد اقترحها خيالي لتقوم معي بنزهة في بلاد العجائب. وقفنا نتأمل تلك المرأة. كان هناك طفل ينظر إلينا من النافذة التي بدت كما لو أنها قد رسمت منذ لحظات. الأصباغ لا تزال تسيل من إطارها. أراك خضراء قبل النوم وبعده. حرّكت تلك المرأة ذلك المشهد الخرافي. كسرت إيقاعه الثابت. لمسة منها كانت بمثابة التغريدة التي ارتفعت بالنشيد إلى أعلى. فوق رأيت أبراجا ونوافذ وزخارف وكتابات قديمة ولقالق.السياحة في هارليم متقشفة ولولا عدد من أزقتها الصغيرة التي تنتمي إلى المنطقة الحمراء في أمستردام لقلت إنها مدينة بريئة. غير أن البراءة كما يبدو صارت هي الأخرى صناعة. الحروف المنسية على البوابات تذكّر بزمن ما قبل الطباعة. اللاتينية لا تزال ليّنة، باعتبارها لغة جماعات سرية، قيّض لها أن تستيقظ بعد نوم طويل على نشيد مشمس. المرأة القادمة من القرون الوسطى بثياب معاصرة لم تلتفت إلينا في أول الأمر غير أنها حين شعرت أن هناك من يراقبها أدارت رأسها لنا وحين تلاقت عيوننا اكتفت بابتسامة حيية واستمرت في سقي نباتاتها. المدينة الأم بقنواتها كنت أفكر بخادمة فيرمير. كما لو أن الحياة كلها فنّ. اللوحات هي الأصل فيما الواقع هو الصورة. كنت أفشل في تركيب المعنى. هناك صوت في أعماقي يهمس “لا تصدق. إنها ليست مدينة للعيش”. هل كانت المرأة ممثلة في فيلم سياحي؟ لقد رأيت طفلها من خلف النافذة. كانت نباتاتها حقيقية وشباك بيتها يتثاءب. حين خرجنا من تلك المتاهة الناعمة، صار في إمكاني أن أتنفس الهواء الذي تعودت عليه. هربت من الجمال بحثا عن الهواء وأنا أعرف أني كنت أكذب. حين تركنا ساحة المدينة الرئيسة وراءنا صرنا نعبر الجسور المقامة على القنوات، جسرا بعد آخر لتسلمنا المدينة إلى وحي مختلف. إذن لم تكن هارليم إلا النموذج المصغر (ماكيت) الذي مهد لقيام أمستردام. هذه إذن هي المدينة الأم. ولكنها لم تكن مثل الأمهات الأخريات في حالة انتظار. تشبه هارليم بائع الحقائب الارستقراطي من جهة أنها لا تنتظر أحدا. ما من شيء فيها يوحي بأنها متلهفة بطريقة استعراضية للقاء زوّارها ولكنها لم تكن متجهمة. كانت المباني التي تعود إلى القرون الوسطى تحيط بي من كل جانب وأنا أشرب فنجان قهوتي الإيطالية. كنائس وقصور وحانات وإصطبلات خيول. صرت أنظر إلى الأرض المعبدة بالطابوق الأسود. في ذلك العصر لم تكن تطأ هذه الأرض سوى أقدام الملوك والأميرات والنبلاء والأمراء والتجار والكهنة وخدم الكنيسة وحراس الأناشيد. في ذلك الزمن كان الفقراء مستعَبدين في قراهم النائية مع الحيوانات البريئة التي كانوا يرعونها. فجأة تجلس فتاة على الأرض وقد وضعت أمامها صحن شاورمة وصارت تأكل. ابتسم خيالي بتهكّم. ما كان في إمكان أميرة أن تفعلها. لقد صارت للحرية أسنان. لا يزال في إمكان هارليم أن تستأنف سيرتها من اللحظة التي انتهى فيها حكم الأسر النبيلة. هذه مدينة نائمة على تاريخها الذي لا يزال منغّما، ناعما وقويا من خلال مشاهده اليومية الصريحة.هارليم لم تكن إلا النموذج المصغر (ماكيت) الذي مهد لقيام أمستردام. هذه إذن هي المدينة الأم. ولكنها لم تكن مثل الأمهات الأخريات في حالة انتظار. مدينة من غير لاجئين هنا تقع أوروبا العتيقة. أوروبا التي كانت تفكر منفردة بمصيرها ولا شيء آخر. أتوقع أن هارليم بالرغم من قربها من العاصمة الاتحادية (أمستردام) لم تكن مدينة مرغوبة بالنسبة إلى اللاّجئين القادمين من الصومال أو العراق والذين تعجّ بهم مدن أخرى. يعرفون أنهم في مدينة من هذا النوع سيكونون أشبه بفقراء القرون الوسطى. لن ترفضهم المدينة، غير أن أقدامهم وهي تلقي خطواتها على دروبها ستعاني الغربة. لن يلقوا خطواتهم براحة في مدينة مهندَسة على أساس كونها نموذجا للمدن المستقبلية التي ستصل من خلالها المسيحية إلى الذروة. كان هناك تنافس بين الأمراء على من يبني الكنيسة الأعلى والأقرب إلى السماء. خيالية إلى الأبد لا تضلّل هارليم زائرها. إنها مكان صريح. تصلح للنظر غير أن السياحة فيها متقشفة ولولا عدد من أزقتها الصغيرة التي تنتمي إلى المنطقة الحمراء في أمستردام لقلت إنها مدينة بريئة. غير أن البراءة كما يبدو صارت هي الأخرى صناعة. في طريق عودتي إلى محطة القطار جذب نظري زقاق أنيق بنوافذ بيوته المزينة بباقات الزهور. كان المشهد إنسيا أكثر من المشهد الأول الذي كان تاريخيا. غير أنني فجأة شعرت بأني ارتكبت خطأ، التراجع عنه لن يمحوه فقررت المضي قدما. كنت في وسط المنطقة الحمراء، وهي منطقة الجنس، وكنت سعيدا أن تلك المنطقة كانت صغيرة الحجم بما يتناسب مع حجم هارليم. كان هناك رجل يكلّم نفسه، خرج من أحد الأبواب وظننته يكلمني، غير أنه مرّ من جانبي ولم يلتفت إليّ. قلت لنفسي بنشوة “لن يرافقنا حتى المحطة”. حين غادرت هارليم حاولت أن ألتفت لأتأكد من أن تلك المدينة كانت موجودة فعلا. الآن حين أنظر إلى الصور التي التقطتها أتساءل “هل كنتُ هناك فعلا؟”، “ألم تُصنع تلك الصور بتقنية الفوتو شوب؟”.

مشاركة :