لا تزال باريس تقيم في تلك الصورة، لا تزال تقيم في صوت إديت بياف، ألم يكن مارسيل بروست محقا حين كتب في مديحها رائعته البحث عن الزمن الضائع؟العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/03/13، العدد: 10570، ص(16)] كلود ليلوش كان معي في فيلمه “باريس والآخرون”، وأنا أحاول أن أنصت إلى موسيقى خطواتي التي ألقيها على حجارة دروب سان جيرمان بباريس. أنا واحد من أولئك الآخرين الذين صرت أتأملهم كما لو أني أنظر في مرآة تظهرني بصور متعددة، أنا الآخر الذي حلم به ليلوش، فيما يشكل الآخرون صوري التي تظهر في مرايا باريس التي تتكاثر كلما فكرت في تلك المدينة باعتبارها فضاء للأحلام. لقد خُيل إليّ في باريس أنني لا أرى سوى بشر، قُدّر لهم أن يقيموا في أحلامهم، حالمون في مدينة لا تزال تحلم، لقد تمكنت السعادة مني ومنهم فنسينا المدينة وصرنا نتماهى مع هوائها المشبع بالموسيقى. على الجسر يهبك الأكوروديون أجنحة فتطير، من هناك ترى باريس على حقيقتها جنة عشاق، تلتفت إليها فتراها تقيم بين ضفتي نهر، دائما هناك ضفتان مطرزتان مثل دانتيل مترف بمتاهات نسيجه. تعبر الجسر وتفكر في أن أحدا ما سيكون في انتظارك على الضفة الأخرى، أحدا مثلك غريبا ولا منتميا ومتصالحا مع نفسه ومطمئنا إلى مصيره العاطفي. ترى حفنة شبان بوهيميين فتبحث عن وجه آرثور رامبو بين وجوهم، الشاعر البهي بطلعته وقد قرر أولئك الشبان المتمردون على آباء اللغة أن يكون أصغرهم سنا، هو مركز الكون في صورة تجمعهم التقطها لهم فانتان لاتور. لا تزال باريس تقيم في تلك الصورة، لا تزال تقيم في صوت إديت بياف، ألم يكن مارسيل بروست محقا حين كتب في مديحها رائعته “البحث عن الزمن الضائع″؟ مليون كلمة هي عبارة عن نشيد لا يزال ممكنا في كل لحظة مشي بباريس، كل سنتمتر على الأرض هو كلمة في سطر بقلم بروست، بهذه الطريقة لن يكون ثمة فرق بين الحجر والورق، خفيفة حجارة باريس كما لو أنها زوّدت بأجنحة خفية. أمشي كمن يحلق وأنا أعرف أن الحجارة التي كنت أمشي عليها كانت هي الأخرى مفردات في نشيد ناعم. كاتب من العراقفاروق يوسف
مشاركة :