في نهارات بغداد وفي كل يوم جمعة بالتحديد تكتسب الحياة طابعا مختلفا، فالقلب التجاري للعاصمة العراقية المليء بالصخب والاكتظاظ واحيانا الفوضى علي الارصفة سوف يدخل في نهارات الجمعة حالة من الهدوء الكامل والطريق ما بين تمثال الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي وسوق الكتب الاشهر في العراق عليك ان تقطعه مشيا وصولا الى كثافة باعة ومشتري الكتب وازدهار المقاهي وخاصة مقهيي الزهاوي والشابندر، وفي العمق في آخر شارع المتنبى يقف شامخا تمثال الشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي. تحت هذا التمثال وفي نهار الجمعة قرّر الكاتب والاكاديمي العراقي طاهر علوان ان يبتكر طريقة جديدة لتوقيع الطبعة الثانية من روايته "الكائن الافتراضي" والطبعة الاولى من كتابه المترجم "كتابة القصّة القصيرة"، وبالفعل التأم من حوله الكثير من الكتّاب والمثقفين وجمهور من زوار شارع المتنبي، اثارهم الفضول فيما كانت هنالك فضائيات عراقية تمرّ بالصدفة لتغطي نشاطات شارع المتنبي فوجدته يحمل روايته ويهديها لمن يطلبها موشومة بتوقيعه فقامت بتغطية الحدث دون ترتيب أو تحضير أو اتفاق مسبق. تحت شمس ساطعة وفيما كانت الزوراق الصغيرة تقطع نهر دجلة اتخذ الجميع مجلسهم تحت ظلال تمثال المتنبي، وكانت فرصة لنحاور الدكتور طاهر علوان عن أجواء هذه الاحتفالية المختلفة عمّا عداها وعن الرواية وعنه وعن منجزه. سألناه عن أسباب اختياره تمثال المتنبي ليوقّع روايته تحته، فقال: لقد قرّرت منذ البداية ان يكون توقيع روايتي أقرب للناس، من دون بروتوكول ولا ترتيب مسبق ولا قاعة مغلقة علما أنه توجد قاعات ملحقة بالمركز الثقافي البغدادي يمكن التوقيع فيها لكنني قررت ثلاثة أمور: أن أكون وسط الناس وهنا في بغداد لأن روايتي من الناس والى الناس، وان اجاور نهر دجلة الخالد حتى يمكنني أن ألامس الماء الذي ارتوينا منه صغارا ولامسنا موجه الهادئ وما زلنا نرتوي منه كبارا، وان أحاكي المتنبي العظيم واحتفي به من خلال روايتي وكما شاهدتتم لقد قام عشرات الضيوف والاصدقاء والزائرين بالتصوير تحت تمثال المتنبي وفي أيديهم روايتي. قلت لطاهر علوان، نعلم انك اكاديمي وسينمائي وناقد معروف فهل يمكن ان تعرّج على المشهد الثقافي العراقي اليوم. قال: المشهد الثقافي العراقي اليوم مرتبط بما آلت اليه المتغيّرات بعد العام 2003، عدم استقرار الوضع السياسي، والاضطرابات الأمنية وقبلها شهدنا ما يشبه حربا أهلية عام 2006، الطائفية تؤثر بشكل كبير على قرارات سياسية تمس مصالح ومستقبل الشعب، كل هذا أثر على الحياة الثقافية، هنالك انصراف عن الثقافة وتهميش للمنجز الثقافي، أزمات تتعلق بميزانية الحكومة تضرب في صميم المنجز الثقافي كتعطّل انتاج الكتب وعدم وجود صندوق أو منح دائمية لللإنتاج السينمائي والتلفزيوني وقد سمعتُ مؤخرا أنّ هنالك عجزا عن إصدار المجلات الثقافية العراقية العريقة كمجلة الاقلام وغيرها. لكن في المقابل هنالك انتعاش في سوق الكتب وذلك بفضل جهود افراد، المثقف العراقي نشيط ولم يوقفه ركود المؤسسة الرسمية أو عجزها، ولم يثنه ما حصل من كوارث في مشاريع بغداد عاصمة الثقافة، ولهذا تصدر في كل عام روايات وقصص وكتب فكرية هي بالعشرات لكتّاب عراقيين، ويقام سنويا مهرجان بغداد السينمائي الدولي لم يتوقف وكذلك النشاطات المسرحية والتشكيلية وغيرها وهذه كلها بجهود فردية وكلها مؤشرات إيجابية. خلال اجابة طاهر علوان مرّ في خاطري ان اسأله عن روايته "الكائن الافتراضي" وماذا تضيف لمنجزه فقال: الكائن الافتراضي هي أصلا رواية في فيلم، كتبتها وانا أعيش أجواء فيلم سينمائي بكل ما فيه من شخصيات واحداث حتى ان الشخصية الرئيسية "حاتم" هو اصلا سينمائي وورث دار سينما هي ذات الدار التي عرفت السينما من خلالها وانا في العاشرة من عمري وهي سينما بغداد. هنالك أزمة عصفت بالمجتمع العراقي منتصف التسعينيات، كان هنالك نظام استبدادي محاصَر وشعب محاصَر أيضا بسبب العقوبات الدوليّة، ولهذا تفاقمت الاحتقانات وانعكست على كل الشرائح الاجتماعية، ولهذا كان على الفرد العراقي ان ينسلخ عن ذاته مستبطنا ذاتا أخرى تستجيب لضغط المتغيرات، وهذا ما حصل لحاتم وليلى هما الكائنان الافتراضيان المعذّبان، صرخة الحرية والأمل المخبوء في الحياة العراقية. بالطبع كُتِبَ الكثير عن الروية ولفتت انظار من قرأها انها امتداد لاسلوبي في الكتابة منذ بداياتي في كتابة القصة القصيرة. بقي أن نشير الى ان طاهر علوان سبق وأصدر ثلاثة كتب في القصة القصيرة، وفاز بالعديد من الجوائز ومن أهمها جائزة مجلة اليوم السابع في باريس مطلع التسعينيات التي عرّفت به وبمنجزه. أكمل دراسته الاكاديمية حاصلا على الدكتوراه، ابحاثه في المكان السينمائي لفتت الانظار وقد نشرها في كتاب حمل عنوان "عبقرية الصورة والمكان"، أصدر مؤخرا طبعته الثانية وهو منهاج يدرّس في عدد من الجامعات ومصدر معتمد، وهو فضلا عن ذلك مؤسس ورئيس مهرجان بغداد السينمائي الدولي وقد أسسه قبل 12 عاما وأكمل دورته الثامنة العام الماضي. انصرف جمهور شارع المتنبي مع ساعات العصر وبقي تمثال المتنبي شامخا قرب دجلة فيما بقي بجواره ملصق عنوانه: الكائن الفتراضي رواية لطاهر علوان.
مشاركة :