في المجتمع الأرضي يكون الموت مبكرا، لا تتعدى أعمار الناس الأربعين بينما في “آركاديا” يتمدد العمر إلى ما فوق المئة. “آركاديا” هي محور المتخيّل السردي لا نستطيع أن نتبيّنها على الشاشة بالتفصيل، ولهذا ستنعش ذلك المتخيّل، فلا تفاصيل تُذكر عن تلك الحياة السرمديّة العجيبة، لكنّ خطوط السّرد لا تكاد تتعدّاها، ابتداء من مشاهد الاستذكار، شارلي يصرخ على الشاطئ وسط العاصفة، ثم مشاهد الاسترجاع الصوري والصوتي للحوار المفعم بالعمق الإنساني الذي كان يدور مع زوجته، حتى يصبح شارلي وحياته نقطة افتراق، ينفذ أوامر مؤسسة حكومية تشبه الاستخبارات في القبض على من يتهدد نظام كوكب “آركاديا”. في المجتمع الأرضي يكون الموت مبكرا، لا تتعدى أعمار الناس الأربعين، بينما في "آركاديا" يتمدد العمر إلى ما فوق المئة. يولد هنا ما يشبه التيار اليساري المنادي بالحق في العلاج للأثرياء كما الفقراء، يعرض المخرج ما يشبه شخصية أنونيموس التي شاهدناها إبّان احتجاجات العولمة. المتخيّل السردي تلتحم من أجله قوة الصورة وبناها التعبيرية في توظيف متقن للمونتاج والسينوغرافيا والحوار، وكلها عناصر حيّدت الكثير من الضعف البيّن في الإنتاج الفني وفي الشكل باعتبار أن الفيلم ينتمي إلى ذلك النوع من الأفلام قليلة التكلفة. هنالك مسار افتراضي بالطبع، جعل الشخصيات تحوم حول مكان افتراضي ومثالي، “يوتوبيا” مكتملة ومزدهرة يُسمَع عنها في مقابل عالم “ديستوبي” تعصف به الأمراض، والحياة فيه مهددة بالموت المجاني، ولهذا لا بد من الهروب من أسر تلك الوقائع، ذلك هو توصيف المكان الواقعي. المكان الواقعي في مقابل الافتراضي والحلمي كانا أرضية لمتخيل سردي أعمق زاد من متعة المشاهدة وملاحقة الأحداث بتجرّد كامل، من دون التعاطف مع شارلي أو إدانته بسبب تقمصه دور المرتزق عديم الضمير، وخاصة ساعة أن ينعطف السرد باتجاه تذكيرنا أنه يحمل مهمّة إنسانية نبيلة، فهو المفجوع بفقد الزوجة وهو الذي يريد إنقاذ الابنة. يمضي شارلي أوقاته حارسا للشخص المطلوب من أجهزة الدولة “أدام بلاك” (الممثل جوزيف بيكر)، وهو هنا ظاهرة أكثر من كونه شخصية محددة، هو صوت معارضين كثر للنظام الذي يدافع عنه شارلي، فيما هؤلاء وفي طليعتهم أدام، هم المتمردون على ذلك النظام. هنالك الكثير من العفوية وما يشبه المبادرة الفردية التي أراد المخرج من خلالها إقناعنا بصدق شخصياته وتعمّقها في تلك المسارات السردية المتشابكة، لكنها مبادرات فردية سرعان ما كانت تصطدم مع واقع “ديستوبي” كل شيء فيه محطّم، حتى الأحلام البسيطة في التماس حياة افتراضية أخرى في كوكب “آركاديا” الذي بقي فكرة عظيمة في مقابل حلم محطم. على صعيد الصورة بوصفها نواة سردية ضمن بناء المشهد ككل تلفت النظر العناية بالكادرات المتوسطة والقريبة، مع منح الصوت والحوار أبعادا تكميلية لتلك الصورة المشحونة بالتأثير، وكل ذلك احتشد للمضي برحلة لا خيارات بديلة عنها باتجاه “اليوتوبيا” التي تحشد “الميديا” وأدوات صراع شتى وخلط أوراق وأكاذيب ومراكز قوى ومصالح من أجل المزيد من التصعيد الدرامي، والمضي بالمتخيّل السردي إلى نهاياته، حتى ولو لم يحقق أيا من أحلام شارلي المحطّمة في بحثه عن سر الخلود الافتراضي الذي تنطوي عليه مملكة “آركاديا” الحلم. :: اقرأ أيضاً الكتابة ليست شيئا آخر سوى صمت من نوع خاص العراق يشهد ثورة روائية غير مسبوقة شعر وقصص ومسرح وتشكيل في مهرجان مسقط جحيم الحياة في المدن الكبرى عبر ليلة قبيل الغابة
مشاركة :