مرّ على اقتراع البريطانيين على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي 9 أشهر، وبدأت عملية الانسحاب قبل أيام حين وجهت، رئيس الوزراء، تيريزا ماي رسالة إلى المفوضية الأوروبية تطلب الانسحاب استناداً إلى البند 50 من اتفاق الاتحاد الأوروبي. ونصف المملكة المتحدة يحتفل بهذه لحظة، والنصف الآخر، وهذه المجلة في عداده، يرى أنه يوم أسود كئيب. ومستقبل الاتحاد الأوروبي وبريطانيا هو رهن ما تقدم عليه من خطوات رئيسة الوزراء البريطانية. ولا شك في أن المفاوضات ستكون عسيرة، والمدة قليلة وتقتصر على عامين. وعملية الانسحاب بالغة التعقيد، في وقت وُعِد ناخبو بريكزيت بتوقعات يوتوبية لا صلة لها بالواقع. والاصطدام بالواقع سيقع حين تخسر بلادهم امتياز بلوغ السوق الأوروبية، وهي سوقهم الرئيسية. وإذا لم تستطع ماي إقناع ناخبي بريكزيت بقبول مساومات وتنازلات، قد تغادر بريطانيا أوروبا من غير إبرام أي اتفاق. وفي وقت يرغب الاتحاد الأوروبي في تناول ما يترتب على البند 50 من طلاق، أي حقوق المواطنين الأوروبيين المقيمين في أوروبا، وفاتورة انسحاب بريطانيا البالغة بلايين اليورو، قبل البحث في اتفاقات تجارية جديدة، تريد ماي المفاوضة على كل المسائل في آن. ولكن، لن يُتفق على شيء قبل الانتخابات الألمانية في أيلول (سبتمبر) المقبل. والمصادقة على اتفاق الانسحاب تقتضي 6 أشهر. فيتبقى أمام المفاوضات أكثر من عام فحسب. وتتصدر أولويات ماي النزول على وعد حملة الانسحاب الأبرز: «استعادة السيطرة» والسيادة من طريق وقف حرية حركة الأوروبيين في بريطانيا ووقف العمل بأحكام محكمة العدالة الأوروبية. ويترتب على الأمرين الانسحاب من السوق الأوروبية الموحدة. لكن الانسحاب هذا في غير محله. ولا يسع بريطانيا الإقدام على هذه الخطوة من غير تقويض الاقتصاد، وهذا ما بدأ الوزراء يدركونه. ولم يؤيد بريطانيون كثر بريكزيت ليصبحوا أكثر فقراً. وليست خيارات ماي في محلها، وتمسكها بوعد استعادة السيادة يوهم الناخبين بأنهم لن يضرسوا. والعائق الأبرز أمام دخول السوق الأوروبية الموحدة ليس التعرفات التي ستفرض على السلع البريطانية فحسب، بل عوائق مثل معايير السلع، والقواعد الناظمة، وقوانين المساعدات العامة. فإذا لم تصدع لندن بهذه المعايير والقواعد، لن يسعها العمل من غير قيود في السوق الموحدة، وهذا ما أدركته الشركات التجارية الأميركية في الاتحاد الأوروبي. وأخطر أوهام ماي هي الزعم بأن عدم إبرام اتفاق مع الاتحاد الأوروبي هو أفضل من أي اتفاق. لكن العودة إلى التجارة بحسب قوانين منظمة التجارة الدولية يلحق أضراراً كبيرة بالاقتصاد البريطاني. فهذه القوانين تجيز للاتحاد الأوروبي فرض تعرفات وسلسلة كاملة من العوائق على نحو نصف الصادرات البريطانية. وانفصال حاد يفاقم عسر التعاون في السياسة الخارجية والدفاعية، وأخطار انسحاب اسكتلندا من المملكة المتحدة. ولا يكفي ماي أن تنتهج لهجة أكثر ليونة، وهذا ما بدأت تفعله. فهي مدعوة إلى خفض التوقعات. وعوض التلويح ببناء سنغافورة على التايمس متفلتة من كل القوانين (وهذا وعد جذاب لأنصار التجارة الحرة، لكنه يبث الذعر في ناخبي بريكزيت)، أو التلميح إلى خفض بريطانيا مستوى التعاون الأمني أو القول أن حاجة الاتحاد الأوروبي إلى لندن تفوق حاجتها إليه، حري بها إبداء مرونة في مسألة دفع بريطانيا حصتها من موازنة الاتحاد الأوروبي. فالمفاوضة على اتفاق تجارة حرة تقتضي أكثر من عامين – وهذا ما تظهره السوابق - وعليها الصدوع بأن الحاجة تمس إلى إجراءات انتقالية لتفادي الانزلاق إلى الهاوية في 2019. وقد تمدد مرحلة انتقالية محددة المهلة حرية حركة الأوروبيين (في بريطانيا) وتمدد العمل بتوصيات المحكمة الأوروبية، من جهة. لكنها تفسح المجال أمام انسـحاب بشروط أفضل من الاتحاد، من جهة أخرى. * هيــئة تحرير المجلة، عن «إيـــــكونوميــــست» البريـــــطانيــــــة، 1/4/2017، إعداد منال نحاس
مشاركة :