«الديموقراطية التوافقية» عندما تتحول إلى عكسها

  • 5/5/2014
  • 00:00
  • 23
  • 0
  • 0
news-picture

النسخة: الورقية - دولي تسعة أيام فقط فصلت بين تصريح الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام لـ «حزب الله»، بأنه «لا توجد عقبات حقيقية في وجه انتخاب رئيسٍ للجمهورية»، وقوله، يوم إهدار حزبه والتكتل العوني نصاب الجلسة الثانية لانتخاب رئيس الجمهورية، أن «لا فائدة من الجلسة الثانية أو الثالثة أو الرابعة إذا بقيت المعطيات على ما هي عليه. لذا، فضّلنا ألا تنعقد الجلسة بعدم إكمال النصاب كي لا يُدبر أمرٌ معين في الخفاء». من الجلي أن «المعطيات» التي قصدها الشيخ قاسم تشير إلى أمور ثلاثة: - أن نسبة القوى البرلمانية قبل أي استخدام لاحق للابتزاز بالفراغ ليست ملائمة للحزب، بدليل أنه يخشى تمكُن مُرشح «غير مناسب» من الحصول على الـ65 صوتاً اللازمة للفوز. - أنه لا يثق ضمناً بمواقف القائلين بوسطيةٍ سياسيةٍ ما بين فريقيْ 8 و14 آذار. - أن نصاب الثلثيْن الذي فرضه الرئيس نبيه بري كشرطٍ لصحة التئام المجلس النيابي في كل الجلسات اللاحقة للجلسة الأولى بدا الآن على حقيقته، ليس فقط كإضافة شخصية ومتعسفة لشرطٍ غير موجود في الدستور، بل خصوصاً كآلية استدعاءٍ لعناصر القوة خارج التمثيل الشعبي في المؤسسة النيابية. وبمعزلٍ عن نقاش خياريْ الورقة البيضاء والمقاطعة وتوصيف بعضهم لهما كحقٍ ديموقراطي إنما «غير وطني» و «غير أخلاقي»، فإن ما حدث في الجلسة الثانية يجب ألا يكون مفاجئاً لأحد. فممثلو ما لا يزال يوصف بتحالف 14 آذار في المجلس النيابي بكل كتلهم، تهاونوا في تمرير التفسير الدستوري المستحدَث خلافاً للقواعد ولرأيهم السابق الذي رفعوه عام 2007، وشفعوه بمطالعات قانونية مسهبة حول حق المجلس في الانعقاد والانتخاب بالنصف زائداً واحداً. فكأنهم سلَّموا سلفاً وفي وقتٍ واحد بحق الأقوى ليس فقط في عدم تطبيق القانون، وإنما أيضاً في تفسيره، فلم نجد غير نواب 14 آذاريين سابقين وقانونيين ضليعين، كالدكتورين حسن الرفاعي وصلاح حنين، يكشفون ما سمّاه الأخير «مخالفة الدستور» ومصادرة «قرار النواب من دون اعتراض أي منهم» وتحويلاً لتشجيع المشترع على التوافق إلى آلية تعطيل. والحال أن التسليم بالقاعدة الجديدة لا يعني شيئاً آخر غير خضوع الأكثرية البرلمانية لمصالح ومواقف الثلث زائدٍ واحداً، بما يمثله ذلك من توسيعٍ للفارق المتنامي بين الوظيفة الرمزية و «التمثيلية» لكلٍ من المؤسسات والسلطات اللبنانية، وبين واقعها الفعلي. والحال أن في ذلك نقلة وانعطافاً بالديموقراطية التوافقية التي تمنح كل «مُكوِّنٍ» حق النقض في القضايا الجوهرية، وبتلك المتصلة بعناصر «هويته» خصوصاً، إلى إلزام الجميع بموقفه وبموقعه وبنتائجه، ما يُحوِّل هذا «الحق» من أداةٍ لحفظ حقوق جماعة، أو «أقلية» ما إلى آليةٍ لتهميش الآخرين وتقليص الانتماء المشترك. وهذا معنى إصرار «حزب الله» على الاحتفاظ بسلاحه وتنظيمه العسكري واقتصاده التحتي الموازي، وحربه ضد الانتفاضة السورية وخروجه العمومي على سلطة الدولة بذريعة مقاومة انصرمت بالتحرير وبالقرار 1701 وبوجود قوات اليونيفيل والدولة وجيشها في الجنوب. وبذلك فهو يُشرعِن ويواصل واقعياً التأسيس للامساواة بنيوية وتسلط فئوي مديديْن. وهذا يمثّل استئنافاً غير خفي للحروب المتناوبة منذ 1975 التي انطلقت تحت شعاري تحقيق «الحكم الوطني الديموقراطي» و/ أو «المشاركة»، وما أسفرت عنه من تحطيمٍ للنسخة «الاستقلالية» من الديموقراطية التوافقية والتي رست رغم بروفة الحرب الأهلية عام 1958، على نظام برلماني يتمتَع نسبياً بآليات التحكيم الذاتي عبر مؤسسة الرئاسة والانتقال إلى نسخة الطائف التي أقرت توازنات وحصصاً مختلفة وآلياتٍ متضاربة وغير عملانية في كيفية اتخاذ القرار وتسيير المؤسسات الدستورية. وهذا ما جعل الأخيرة «في حاجة» إلى تحكيم دائم من قوة الوصاية الأسدية أصالةً عن نفسها ووكالة عن القوى الخارجية. ما نشهده اليوم في انتخابات الرئاسة هو بمعنى ما خطوة أخرى نحو إعادة تفسير وتوجيه صيغة الطائف ومعادلاته تحت وطأة فائض قوة «حزب الله» لتحويل الأمر الواقع إلى شرعة جديدة، إذ ليس دقيقاً اعتبار أن جل ما يريده الحزب اليوم هو الحفاظ على سلاحه وعلى استمراره في حربه السورية من دون اعتراض مادي. فليس هناك واقعياً من طرفٍ داخلي يهدّد، أو يمكن أن يُهدِّد هذا الوجود، خصوصاً بعد «فكّ الارتباط» الذي أجراه تيار المستقبل لأسبابٍ متعددة مع الوجه العسكري للثورة السورية، والذي كان في منطلقه أهلياً ومناطقياً. وهو انفكاك استجاب أولاً لتوجهٍ إقليمي - دولي، وطلبٍ على الهدنة في لبنان، واستهدف ثانياً وقف تذرُر القاعدة الشعبية لتيار المستقبل لمصلحة قوى «مُتسلفنة» وجهادية لا يمكن التحكم بمساراتها وتقاطعاتها، بما في ذلك مع الحزب والنظام الأسدي وخصومه المحليين، وكان بين عناصر أخرى سهّلت تأليف الحكومة وتنفيذ خططها الأمنية. وهذا في ما يبدو الإشكال اليوم وكأنه في «مبالغة» وزراء التيار وقيادته في العلاقة مع الحزب والجنرال عون «على حساب الدولة والحلفاء». قصارى القول إنه على رغم غياب التهديد الداخلي، فإن خط الحزب في موضوع رئاسة الجمهورية بدا مُهدِّداً بفراغٍ يبتدئ بقمة السلطة التنفيذية وينتقل إلى التشريعية مع اقتراب نهاية تمديد النواب لولايتهم، وهو يستخدم الميل «الطبيعي» للجنرال عون إلى خيار «أنا أو الفراغ» ليُغطي اتجاهه الفعلي إلى استكمال ما يملك من «ضمانات» بنيوية بأخرى مستقبلية. وهذا ما تعنيه شروط مسؤوليه المتكررة على الرئيس العتيد بأن «يحمي لبنان وقوته ومقاومته» و «يعمل ليشترك الجميع في إدارة البلد»، وتسفيهه موقع رئاسة الجمهورية كاعتباره الرئيس ميشال سليمان رئيس «تصريف أعمال» بسبب انتقاده حرب الحزب في سورية، وقيام نوابه لدى الجلسة الثانية بالوجود في الباحة للتحريض ضد المحكمة الدولية وليس لإكمال النصاب. كما يعنيه الدفع لتفجُّر اجتماعي يُحفّزه تردي أوضاع فئات واسعة وتقطعات الدورة الاقتصادية وانحدار مستوى المرافق العامة وتحلل الإدارة، وسط زيادة واجباتها لمواجهة تدفقات النازحين. الإشكال أن «الضمانات» المذكورة غير معقولة في أي دولة، فكيف في «ديموقراطية توافقية» تعج بالحروب الكامنة؟

مشاركة :