النسخة: الورقية - دولي كأن الثورات العربية، التسمية التي صارت محل شك، كانت ضرورية لتنشّط ثقافة ما قبل الربيع العربي دورتها الدموية، مستعينة بسيل الدماء الحقيقية الذي جرى ويجري في أكثر من بلد، وفي مقدمه سيل الدماء السورية. كان حازم صاغيّة عبّر عن ذلك النكوص في مقاله («الاستقرار» دين المرحلة؟)، حيث ربط الطلب على الاستقرار بفئات اجتماعية تقيم في النصف الأعلى من الهرم، مطالباً «من دون حماس دعَوي» بتثقيل الثقافي على حساب السياسي وباشتماله على المجتمعي ليكون ثقافياً وفاعلاً. من المرجح ألا يكون حازم يقصد المثقف كفئة اجتماعية تقيم في النصف الأعلى من الهرم. غير أن العديد من الأمثلة التي عاينّاها منذ نحو ثلاث سنوات ونصف سنة يقول إن نسبة طاغية من المثقفين تعيش، أو تتوهّم العيش، ضمن سلطة إما ملحقة بالسلطان السياسي مباشرة، وإما هي سلطتها الثقافية المتحصلة من النظام التراتبي العام والمعرّضة بدورها للانهيار بفعل إسقاط النظام. السلطة الثقافية، من هذه الجهة، ليست مكانة معنوية متحصلة ضمن الحقل الثقافي على النحو الذي يفرده السوسيولوجيون لمفهوم الحقل، بل هي أيضاً وأولاً سلطة على الفضاء العام، لا يقلل من الإحساس بها فقر الفضاء الرمزي العام، بل على الأغلب يزيد التمتع بها عطفاً على ميزة الإحساس باحتكارها. الثقافة العربية لا تزال إلى حد كبير ترى في المثقف مشروع صعود وانسلاخ عن أسفل الهرم، ولم تبارح على نحو حاسم صورة المتعلم «الذي يفك الحرف» وسط أهالي قريته الأميين. لم يخدش الصورة، في مدلولها العميق، تناقص الأميين لأن المعلم ظل ينظر إلى نفسه ضمن صورته السابقة، ولأن المفهوم الجمعي المكرس ما فتئ يشجع سلطته القائمة على التفاضل مع الأدنى ثقافياً، لا على الإنجاز الثقافي ذاته. فوجئ المثقف بالثورة (غالباً ما تكون الثورات مفاجئة)، فاحتفى بها بدايةً من موقع المتعالي الفَرِح بأولئك «الرعاع» الميؤوس منهم، إلا أن موقعه يتيح له باطمئنان شديد الانقلاب على ثورة لم تكن ثورته في الأصل، هذا إذا نحّينا جانباً عدم وجود مصلحة مباشرة تجمعه بثورة جذرية قد تهدد سلطته أيضاً. قفزة بعض المثقفين من مركب السلطة إلى مركب الثورة لم تتطلب منهم مراجعة تقع في صميم مسؤوليتهم عن النظام، كذلك هي قفزتهم الثانية إلى مركب «الاستقرار» حيث المبررات جاهزة لتحميل المسؤولية لمَن انحرفوا بالثورة عن مقاصدها، أو لمن أغرقوها بفوضى لا يطيقها عقل مثقف منظم. لا شك في أن القفزة الثانية أسهل من الأولى، لأنها تدغدغ الأحاسيس النخبوية، بمعنى آخر، لأنها تعيد إلى المثقف السلطةَ التي كادت أن تتبدد وهو يحتفي بالمجاميع الثائرة. إلا أن العودة، وهي سهلة إذ تقطع مسافة قصيرة على الصعيد النفسي، لن تفلح في استعادة النظام الذي جرى اختراقه قبل حين، وسيكون صعباً على المثقف «تمييع» موقعه ضمن «الهرم» على النحو الذي كان سائداً من قبل. في زمن الفرز الحاد، لن يكون في وسعه الحفاظ على النظام سوى بالأدوات العنيفة أو الصريحة التي يقترحها النظام ككل. لذلك يمكن أن نقرأ مواقف المثقفين الذين اصطفوا منذ البداية مع النظام، أو الذين عادوا إلى حضنه بعد نزهة قصيرة في الثورة. فافتقار هؤلاء إلى الحساسية الأخلاقية والاجتماعية، وإن بدا خيانة لنصهم القديم، هو بالأحرى أمانة لسلطتهم وموقعهم. ليست مصادفة أن يتهافت نص مثقف النظام مع عودة الأخير إلى مشروع هيمنته السابق. فعودة النظام غير ممكنة إلا على نحو مبتذل من وجوده السابق، والدفاع عن عودته من قبل المثقف لا يحمل وعوداً بقدر ما هو محمول على اليأس أو على تعميم الشعور باللاجدوى، تالياً لن يكون مستغرباً خلوّه من الحساسية الفنية. دفاع المثقفين عن الأنظمة القديمة أو العائدة إلى الحكم كان لا بد أن يكون على مثال الحاكم نفسه، فالفرصة الزمنية القصيرة لا تتيح وقتاً لإنضاج ثورة ثقافية مضادة، فضلاً عن أن الأنظمة العائدة لا يجوز وضعها في مصاف الثورة المضادة. أن يتشارك المثقف والحاكم في المقولات ذاتها، هذا في وضعنا دلالة على انحطاط المنطوق الثقافي لا على هبّة معرفية سقطت فجأة على الحكام حيث أن التثاقف لا يقع في طليعة اهتمامهم أو أدواتهم. لكن التشارك يلغي المسافة التي كانت قبل الثورات ضرورية لتمايز المثقف، وليكون مشاركاً فعلياً في النظام لا ناطقاً إعلامياً باسمه. التعبير الصارخ عن الانحطاط هنا قد يكون إيجابياً إذا استُثمر للبدء في مساءلة شاملة لثقافة النظام التي كانت سائدة من قبل، ومموّهة على الصعيد الثقافي بحيث تنطلي على مجاميع «الأميين». فالحق أن الثورات العربية، في غمرة انشغالها السياسي، لم يتح لها الوقت لمساءلة النظام ككل، وما التعبير عن الإحباط من مواقف المثقفين سوى نتيجة لحسن الظن القادم من نصوصهم التي كانت تعبّر عن تنازع في أعلى السلّم، عن تنازع ضمن السلطة ذاتها لا انشغالاً حقيقياً بتقويض هذا الشكل من السلطة والنظام. على العكس من الدارج، أن يعمد المثقف إلى ابتذال نفسه، أو أن يُضطر إلى ذلك، فقد يكون هذا من نِعَم الثورات أو من النعم الشحيحة لعودة النظام القديم، لأنه ربما يختصر جهداً نقدياً طويلاً، مع أن الأفضل دائماً أن يفتح ذلك الباب على جهد نقدي طال انتظاره، وتبين في شكل حاسم أنه لن يأتي من الفئة الثقافية التي هيمنت في العقود الأخيرة. ذلك لن يكون منتظراً أيضاً ممّن يمكن تسميتهم «تكنوقراط الثورة»، أي أولئك المثقفين التقنيين الذين يكتفون برصد ما يجري بلا حساسية نقدية، وضمن الشعور بالتعالي الذي يجمعهم مع الفئة الأولى، وإن أتى هذه المرة محمولاً على ادّعاء الاستقلالية والموضوعية. إن فشل الثورات بقواها الذاتية لا يضاهيه، ولن يعوّضه ربما، سوى فشل النظام الذريع في استعادة ذاته. بانحطاطه، هو وثقافته ومثقفيه، يقدّم الدليل لمن يريد خريطة للمستقبل.
مشاركة :