كشفت الضربة التي وجهتها الولايات المتحدة الى النظام السوري ان دونالد ترامب ليس أسير العلاقة مع روسيا، إضافة بالطبع إلى أنّه ليس باراك أوباما الذي كان أسير العلاقة مع ايران وملفّها النووي.كشفت الضربة أيضا ان روسيا تعيش في عالم آخر لا علاقة له بحقيقة ما يدور في سورية. هناك صورة لسورية في مخيلة الرئيس فلاديمير بوتين والمحيطين به تختلف كلّيا عن سورية الواقع. لولا ذلك، لما قرّرت روسيا بكل بساطة أن تكون عدواً للشعب السوري. انضمّت الى النظام الاقلّوي والى الميليشيات المذهبية التابعة لإيران في عملية تهجير الشعب السوري من ارضه واجراء تغييرات في العمق على التركيبة السكانية السورية عبر طريقتين: الاولى المساهمة في تدمير المدن الكبيرة، او تطويقها، بصفة كونها مدنا سنّية، والثانية ربط مناطق حدودية سورية مع مناطق يسيطر عليها «حزب الله» في لبنان، أي مع المناطق التي تتشكّل منها دويلته، التي هي أقوى من الدولة اللبنانية، وذلك خدمة للمشروع التوسّعي الايراني.الأخطر من ذلك كلّه، ان اللغة الخشبية التي يستخدمها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف او المندوب الروسي في الامم المتحدة، تشير الى ان الاتحاد السوفياتي، الذي شبع موتاً، بُعث من جديد في العام 2017، أي بعد ربع قرن على انهياره وانكشاف انّه لم يكن يوماً سوى نمر من ورق. ما الذي فعله الاتحاد السوفياتي لسورية باستثناء تحويلها الى دولة ديكتاتورية تحكمها عصابة همّها الاوّل والأخير استرضاء إسرائيل؟ من يتحمّل مسؤولية توريط سورية ـ البعث، التي سلّمت الجولان على صحن من فضّة الى إسرائيل، لجمال عبد الناصر في حرب الخامس من يونيو 1967؟ضرب الاميركيون حيث يجب أن يضربوا. استهدفوا بصواريخ «توماهوك» القاعدة الجوّية في الشعيرات، قرب حمص، التي انطلقت منها الطائرة التي قصفت اهل خان شيخون، بما في ذلك النساء والأطفال، بالسلاح الكيماوي.لم تمض ساعات على الضربة الاميركية حتّى بدأت كل الأطراف التي تُعتبر جزءاً لا يتجزّأ من الحرب الدائرة على الأرض السورية تعيد حساباتها. بدأت إيران تتحدّث عن مزيد من التنسيق مع روسيا وبدأت روسيا تستنجد بإسرائيل باعثة باشارات إيجابية الى بنيامين نتنياهو. استعادت تركيا حماستها في التصدي للنظام السوري بعد فترة طويلة بدت فيها مجرّد تابع لروسيا.كانت صواريخ «توماهوك» الـ59 كافية لتغيير قواعد اللعبة في سورية ولكن الى متى؟ هل ضربة مطار الشعيرات مؤشر الى سياسة أميركية طويلة النفس تجاه سورية والمنطقة تعيد كلّ طرف فيها او خارجها الى حجمه الحقيقي، بما ذلك ايران ذات الطموحات التي لا حدود لها، فضلا بالطبع عن روسيا التي سمحت لنفسها أن تتصرف كقوّة عظمى؟يبدو ان روسيا لم تأخذ علماً بانتهاء الحرب الباردة. صارت تعتقد ان سورية ملك لها، الى ان جاء من يقول لها انّه لم يعد في استطاعتها ان تفعل ما تشاء ساعة تشاء بمجرّد انّها اخذت في الاعتبار مصالح اسرائيل. دخلت الولايات المتحدة اللعبة السورية من بابها الواسع في ظلّ إدارة جديدة مازالت في مرحلة بلورة سياستها الشرق الأوسطية.اللافت أنّه في مقابل الخطاب الروسي المنفصل عن الواقع السوري، هناك خطاب أميركي واضح كلّ الوضوح يصدر عن نيكي هايلي مندوبة الولايات المتحدة لدى الامم المتحدة. تضع هايلي النقاط على الحروف عندما تذكّر بمسؤولية ايران وروسيا عن الجرائم التي يرتكبها النظام السوري. فروسيا ضمنت في نهاية المطاف الانتهاء من ترسانة السلاح الكيماوي السوري بعد استخدامه صيف العام 2013 وتراجع باراك أوباما عن توجيه ضربة كانت كفيلة بالقضاء على النظام.وروسيا غطت بعد ذلك إلقاء البراميل المتفجّرة على المدنيين السوريين، فيما كانت الميليشيات المذهبية التابعة لإيران تنفّذ عمليات تطهير ذات طابع مذهبي، خصوصا في دمشق وعلى طول الحدود اللبنانية ـ السورية. وروسيا تدخلت مباشرة في مطلع سبتمبر 2015 كي تمنع سقوط النظام. وروسيا وراء تدجين تركيا وجعلها شريكا في الحرب على حلب التي انتهت بعودة النظام الى المدينة أواخر العام الماضي.لعلّ اهم ما قام به دونالد ترامب هو الاستهزاء بـ«الفيتو» الروسي في مجلس الامن. عندما وجد ان المندوب الروسي يعمل كلّ شيء من اجل كسب الوقت، وجه الضربة الى المطار العسكري السوري.ما يشجّع على بعض التفاؤل بالموقف الاميركي ليس بداية استيعاب إدارة ترامب لحقيقة ان لا حرب ناجحة على الإرهاب «الداعشي» من دون القضاء على إرهاب النظام السوري والميليشيات المذهبية التابعة لإيران فقط. هناك عملية إعادة تشكيل للادارة الاميركية الجديدة، بعيدا عن أولئك المنظرين أصحاب الأفكار الغريبة، لمصلحة عسكريين محترفين يعرفون جيدا ما هو النظام السوري وما هي ايران وما الذي تفعله في العراق وسورية ولبنان... واليمن وحتّى البحرين.ليس صدفة ان ستيف بانون، الذي كان كبير منظري الإدارة، وُضع على الرفّ عشية قرار توجيه الضربة الى قاعدة الشعيرات. لم يعد سرّاً أن الإدارة الاميركية أعلمت روسيا بالضربة قبل حصولها مؤكدة بذلك انّها لا تريد صداماً مباشراً معها في سورية. لكنّها أكدت في الوقت ذاته أنّها صارت لاعبا أساسيا في بلد يعاد تشكيله. لم يعد سرّا أيضا ان هناك صعوداً لنجمي وزير الدفاع جيمس ماتيس ولجنرال آخر هو مستشار الامن القومي هربرت ماكماستر. كذلك، هناك حضور اقوى لقادة الاجهزة الأمنية في صنع القرار الاميركي.ماتيس وماكماستر يعرفان سورية والعراق عن ظهر قلب ويعرفان جيّداً دور النظام السوري وايران في التحريض على الاميركيين في العراق، وذلك بعد وصول قادة ميليشيات مذهبية الى السلطة في بغداد على ظهر الدبابة الاميركية. يعرفان، خصوصاً، من وراء «داعش» ومن اطلق إرهابيين من السجون العراقية والسورية لخلق حالة يظهر من خلالها النظام السوري انّه يحارب الإرهاب، علما انّه مشارك أساسي في صناعة التطرّف والارهاب بكلّ اشكالهما.ثمّة ميل الى التفاؤل بدور أميركي أفضل في المنطقة. لكنّ هذا التفاؤل يبقى حذراً، لا لشيء سوى بسبب تعقيدات الوضع السوري. على روسيا المتحالفة مع إسرائيل إيجاد صيغة للتعاون مع ايران. على تركيا التي ارتبطت بمصالح مع روسيا إيجاد طريقة لاعادة العلاقات الجيدة مع الولايات المتحدة التي تراهن في الوقت ذاته على الاكراد. يحصل كلّ ذلك في وقت صار الوجود العسكري الاميركي ثابتا في سورية والعراق وفي وقت تعاني روسيا وايران من ازمة اقتصادية عميقة جعلت منهما دولتين مفلستين.الثابت ان النظام السوري، في عهد الأسد الابن، يبدو وكأنّ المدّة الافتراضية لصلاحيته صارت في حكم المنتهية بعدما أدّى المطلوب منه. أي تحوّل سورية الى مناطق نفوذ أميركية وروسية وايرانية وتركية وإسرائيلية.يأتي ذلك في وقت تقترب فيه الذكرى الخمسون لاحتلال إسرائيل الجولان في مرحلة كان فيها الأسد الاب وزيرا للدفاع في سورية ـ البعث قبل ان تتحوّل الى سورية ـ الأسد!من سورية الأسد الاب، الى سورية الأسد الابن... في خمسين عاماً، ضاعت سورية بعدما ضاع الجولان.
مشاركة :