حين يجتمع التاريخ والجغرافيا والشعر والسرد والنثر الفني والدراما وعلم الاجتماع والرسم والتشكيل على صعيد واحد داخل النص وتتناسج خيوطه وتتعالق ، فإن الفن الوحيد الذي يمنكن أن تتآلف فيه هو الرواية، فهي أم الفنون وحاضنة الثقافات والمعارف تنفسح رحابها لتستوعب ذلك كله ، والأفق الفريد الذي يسمح لاجتماعها في مشهد واحد هو المكان، من هنا كانت حفاوة هذه الرواية بالمكان ابتداءً، فقد تحوّل إلى شاهد ومشهود وفضاء بلا حدود ، تقمّص شخصيّة الإنسان فتاةً جميلةً تستلقي في حضن التاريخ وتختلس الأنوثة جسداً وروحاً فتتبدّى في كل أطوارها النفسيّة وأشواقها وغرائزها وشهواتها وأطوارها، تتشكلّ من خلال ريشة الفنان تمثالاً أشبه بتمثال ( بيجماليون) الذي استحوذ على صانعه فتعلّق به حدَّ التوحّد والذوبان، وتماهى في الزمان فتمثّله الكاتب في كل أطوار التاريخ ورصد تفاصيله ومتغيّراته ورسم خريطته جسداً وروحاً وأحصى عليه أنفاسه ، رسم خريطته بريشته التي غمسها في مداد من دم القلب ووجيب الوجدان وتمثّله جسداً حيّاً وتوقّف في كل مفاصله وسبر أغواره بمجسّات بيانه وحشد قاموسه متنقلاً بين معاجم شتى في مختلف الحقول، فهو يستهلّ روايته بهذه العبارة : “الجميلة النائمة على مفرق التاريخ عند شاطيء البحر الأزرق حيث الغروب يعطي نكهة الأمل ، الوعد بالمستقبل السعيد ، ما زال رجلاها في امتدادهما إلى داخل الغطاء المائي تمسكان أسماك الشبوط وتهرمان بالقراقير” إنه يرسم في لوحة بديعة تضاريس المنطقة كلها في لوحة تضم صورة هذه الجميلة النائمة فيوزّعها على شكل مفاصل وأعضاء تمثل صورة تلك الأنثى بكل ما يعبّر عن سماتها من جوارح موزّعة على خارطتها الجسدية : دارين وتاروت ورأس تنورة والعوّامية التي يضعها في موقع الشهوة الحسّية، فهي ذات دورة قمرية يتمثّلها في شكل العادة الشهرية التي تنتاب المرأة بأعراضها النفسية والحسّية ويتحدث عن هلوساتها ، ويوغل في هذا السبيل حتى يلامس سقف الأسطورة فيتحدث عن طقوس الملاحة وشعائر الحصاد والجسد المسجّى على الرمال متمثلا ًتلك الخيالات الكهنوتية الوثنيّة لدى الإغريق والبابليين فيصفها بعروس الخليج ، ويرى في بعض ظواهرها الجغرافيّة الهضبتين المرتفعتين المجاورتين لبلدة (القديح) ثديين ناهضين ويتحدّث عن الجش وسيهات شارحا ومتتبعا ومتقصّيا لكل ظواهرها الطبيعية التي تتحول إلى ملامح أنثوية بوصفها شخصية رؤائيّة رئيسة:“تتوسّط (العواميّة ) رجلي الجميلة النائمةعلى ضفاف الخليج تمتاح من الشهوة ، لا تستطيع إمساك مشاعرها التي تفيض دوماً ،بلدة لا تعرف الهدوء كلّما اقتربت الدورة لقمرية من الاكتمال” لوحة يتم تشكيلها عللى شكل ( بروتريه) يبرز ملامحها وتتشكّل المنطقة كلّها في صيغة تمثال منحوت في صخور تلك المنطقة، فنحن أمام مؤشّرات جغرافيّة طوبوغرافيّة تحدد جغرافية المنطقة بإزميل نحّات وريشة فتنان وقلم أديب ، ثم سرد تاريخي يتتبّع التحوّلات التي ألمّت بالمنطقة كلها فيتقمّص شخصية المؤرخ تارة، وعالم الأنثروبولوجيا تارة أخرى ، فيجعل من المكان شخصيةً أو بطلاً روائيّاً ، ويتقنّع بقناع عالم الاجتماع فيتتبّع عادات السكان وتقاليدهم وأمزجتهم وثقافتهم ويتحدّث عن التّحف والمصنوعات اليدوية التي تقوم النساء بصنعها في تلك المنطقة، وعن الأعراق والتوزيع السكانيّ والثورة الصناعيّة ويتكلّم عن الهوية والانتماء والوطنيّة والدين وتتابع الأجيال والقديم والحديث عن سبات الجميلة ويقظتها على المهرجانات والاحتفالات والتطوّر الحضاري والمواثيق الصحراويّة، ويتحول إلى شاعرٍ عاشق يتغنّى بالجمال ويحصي نبضات القلوب ، ويظلّ مشدوداً إلى منحوتته التي صاغها بقلمية وشكّلها بإزميله ، تلك الأنثى الفائقة الجمال المستلقية على رمال الشاطيء وكأنها إحدّى ربّات الجمال في الميثولوجيا الإغريقية مصرّاً على تأكيد أنوثتها المجازيّة في لباسها واغتسالها بمياه البحر ومفاتنها وتربّص الذئاب البشريّة بها. وهو إذ يستغرق في إضفاء الرتوش على صورتها ينخرط في توصيف الذّئاب التي يسيل لعابها من أجل الظّفر بها ، يستطرد ليتحدّث عن الأجواء والصراع والمعاناة ، ثم ويوغل في الحديث عن التحولات التي انتابت المنطقة بعد اكتشاف النفط ، ويعمد إلى التحليل والتفسير والشرح وكأنّ المتلقي ينتقل معه لقراءة صفحات من بحثٍ في التاريخ وعلم الاجتماع ، ثم يستغرق الكاتب في تأمّلاته وسبحات أفكاره عن المستقبل المشرق والحلم الوردي ، وفي مقابلته بين الواحة والصحراء والحديث عن التحوّلات في ظل الطّفرة وتعاقب الأجيال ، الجدل بين التغريب والتأصيل والتخلّف والتقدّم من خلال ثنائيّة الذئب والجميلة التي استيقظت من نومها واستعصت على كل العروض والمحاولات ، وصمدت أمام الوحوش والمغريات ، فقد تمثّل الكاتب آلهة الحب في أساطير الإغريق (فينوس) و(كيوبيد) وغيرهما. اصطنع أمثولته الرمزيّة ممثلة في الجميلة النائمة والذئاب البشرية والحفاظ على العذريّة والصمود في وجه الوحوش والذئاب ، رموزقريبة، تأويلها سهل ميسور (أليجوريا ) مبسّطة . محاولات الاغتصاب وانتهاك العذريّة فشلت فشلاً ذريعاً أمام الصمود الأسطوري للجميلة النائمة الباذخة الحسن ، الأصيلة الحسب والنسب ابنة الصحراء . ويمضي السارد في رواية قصة الجميلة الرّمز التي تتأبّى على الذئاب البشريّة وتغتسل بمياه البحر الزرقاء محافظة على عذريّتها وطهرها وتستعيد ذاكرتها التاريخيّة متشبثةً بهويّتها مستكشفةً ملامحها عبر الانفتاح على الطبيعة البكر والتاريخ الناصع ، يمضي السارد في حديثه عن انتصار البكارة على الدّنس ومقاومة الشرف للرذيلة ورصد الخوف من ردّات الفعل بعد الهزيمة والاندحار. يصور الكاتب الصراع حول الجميلة بين عالم الصحراء ، وهو الذي يحمي الذئاب والغيلان وعالم الشواطئ والبحار في حشده المجازي ورمزياته الأليجورية .ثم يتحول السارد إلى محاضر وأديب وباحث يتقصّى التطورات والمراحل التاريخيّة ويفسّرها فيغلّب (الخطاب) وفق مصطلح الشكلانيين الروس على (التاريخ) وهو السرد وفقا لمفاهيمهم متحدّثاً عن الطبائع والقيم مقارناً بين سمات الصحراوي ونقيضه ، وعن تحرير العبيد والبنية الاجتماعية بعد هذا التحوّل المنعطف في الخريطة الاجتماعية متحدّثا عن أزمة الولاء والانتماء ، وهذه القضايا المُشكل الرئيس الذي يتخلّل السّياق الزمني للرواية إذ يظل المكان مُستحوِذاً على دور البطولة في الرواية ، إذ يتحدّث عن القيم الاجنماعية وما انتابها من تغيّر وعن صفات الانسان الصحراوي وبعض القيم السلبية التي يرى أنها كذلك . يستغرق الحديث عن الجميلة النائمة المستلقية على الشاطيء وعن صحوتها وعمّا ينتابها في صراعاتها، خمسة فصول تبدو بمثابة جزء استهلاليٍّ للرواية ومدخل إلى متنها الرئيس ، ووظيفة الاستهلال في الرواية بالغة الأهمية فهي المدخل الرئيس الذي يمهّد السبيل أمام المتلقي لفهم مجريات السرد في الرواية، والتعرّف على مراميه، ولكن هذا الاستهلال طال حتى تحوّل إلى نصٍ قائمٍ بذاته ، وشكّل متناً روائياً له بنيته التي يبدو النّص الاستهلالي السابق فضاءً واسعاً من فضاءاته . في الفصل السادس ينفتح النص على أفق مكانيٍّ جديد يتمثل في المستشفى ، وهنا تبدأ أحداث الرواية بوصفها فناً سرديّاً ، حيث استثمر النّص الاستهلاليّ في الوصف والشّرح والتحليل وتداخل فيه الخطاب الأدبي مع الخطابات الأخرى ، فنحن هنا مع حيّز مكانيّ أكثر خصوصية ، له طابعه الوظيفيّ الخالص الذي تدور فيه أحداث الفعل الروائي ، وهو ينتمي إلى الفضاء الرّوائي الواسع الذي يظلّ حاضراً في النص. في هذا الجزء تتشكل بنية الرواية ويتبدّى تجلّياتها عبر تقنيات المشهد الذي يتّحد فيه المكان ليكتسب خصوصيته ، فمن المستشفى إلى القسم إلى الغرفة الخاصة ، ويتحرك الحدث ليتحول إلى مشهد مسرحي في تتابعٍ زمنيٍّ يتوازى ويتقاطع عبر الحوار بين امرأة الواحة التي أنجبت وليدها الأول والمرأة الآسيوية، وتتأنسن العلاقات حتى لتغيب الفوارق بين الطبقات والأعراق ، ويدخل العنصر البشري في التشخيص حقيقةً لا مجازاً وينحسر الخطاب الشعريّ والتاريخيّ والاجتماعيّ لصالح السردي والدرامي ، الحوار بين السيّدتين وبين كل منهما وبين الممرضة ، وتزداد إمكانات التواصل عبر لغة الأجساد ، من خلال احتضان الوليد وتقبيله ولهفة أمّه عليه، وكذلك زيارة الأب وسلوكه العملي العاطفي حيث يغوص السارد العليم في دخائله ويستبطن مشاعره وأحاسيسه، ويبحر في عالمه عبر الخيال، ويستشرف أفاق المستقبل ، وكلّ هذا الاحتشاد من أجل تعميق الإحساس بالكارثة القادمة ، وتحتل تقنية المشهد بؤرة السّرد ويتم توظيفها مستقبلا عبر سلسلة من المشاهد التي تتراكم لتنفجّر في المشهد المأساوي الأخير وفقا لقانون التراكم الكمّي الذي يحدث تحوّلاً كيفيّاً ، يمهد السارد للنهاية الصادمة عبر الحديث عن الصفحة البيضاء للطفولة التي تتعرض للخربشات فيما بعد ، وتتراوح تقنيات السرد ما بين العرض المشهدي والتعقيب والتحليل ، كما تقتضي طبيعة الرؤية في الرواية ،حيث يتم إسقاط الحدث العمودي المفاجئ على النّسق الأفقيّ للسرد فتحدث الصدمة التي تنحرف بالحدث الروائي إلى مسار جديد . يحتل الوليد موقع البطولة ، فهوموضع اهتمام السارد ومناط الرؤية ، فقد استعرض مراحل حياته وسلّط الضوء على تميّزه وتفوّقه والمبالغة في الاحتفاء به ، وعمل على تكديس المشاهد الخاصة بذلك ذات الطابع الرومانيسي بلغة مجازيّة شعريّة تراكمت فيها الأوصاف ذات الطابع الاحتفالي الوجداني ، وذلك تمهيداً لإشعال الصاعق الذي يفجّر المشهد الأخير النقيض ،ولعل التدفّق الوصفيّ عبر التداعيات لأدقّ التفاصيل الحميمة للعلاقات الأسريّة التي تبدّت من خلال الرصد بوساطة عدسة السارد العليم، حيث يبدوشديد الوضوح في هذا الكمّ من المشاهد لما أحدثه مجيء الطفل إلى عالم الوجود فيزفّ إلى عالم الفناء فيما بعد في مفاجأة صاعقة ؛ فضلاً عن الإسراف في التعليق والتأملات التي جاءت على لسان الراوي العليم، وكذلك المبالغة في تتبّع حدث الختان وتصوير طقوسه وكأنها شعائر أسطورية، والسخاء في الحديث عن مجتمع الواحة وتقديسه للإنسان وغرسه للقيم الإنسانيّة والتربويّة في نفوس أفراده على نحومثاليٍّ تبدومعه هذه البقعة الجغرافيّة وكأنها المدينة الفاضلة التي تحدث عنها الفارابي ومجتمع أفلاطون المثالي في جمهوريته المتخيّلة . وكذلك الصورة الأخرى النقيضة والتراكم الكمي الملحوظ للخطاب الاجتماعي والتحليل والشرح. والاستقصاء المسرف لحياة الناس في الواحة وفي مجتمعها والمجتمع المحلي بشكل عام في سياق يجمع بين ثنائيّة تفصح عن لونين متناقضين من أنماط الثقافة والوجود ، وفي غمرة ذلك كله يعمد السارد إلى تسليط الضّوء على تميّز البطل ذلك الشاب العبقري الذي أحرز أعلى درجات التفوق وأصبح نموذجا متميّزا ؛ وفي موازاة هذا النموذج الفذ الذي يرقى به السارد إلى أعلى الذّرى كان في المقابل إعداد للشيطان الذي سيسطوعلى كل هذه الإنجازات التي حقّقها الشاب العبقؤيّ في عملية إرهابية مدويّة. يتحدّد المكان ليصبح محصورا في مبنى المسجد حيث يتحوّل إلى ساحة للمواجهة بين من يتمثَّلُهم شياطين يتأمّل دورهم ويتوقّف ليسبر ما يدور في أغوارهم ويروي خططهم الشريرة والمصلّين الذين يرى فيهم طهر الملائكة ، ويحلّل موقفهم وما يدور في بواطنهم من نوايا حتى تقع الواقعة ويسقط الضحايا ومن بينهم ذلك الشاب العبقريّ ، ويمضي الراوي في تصوير المشاهد والتعقيب عليها ويتحوّل المقف إلى تراجيديا محزنة . “ يندفع الذئب الحاقد إلى المسجد، الملائكة مضطربون ، أجنحة الضياء ترفرف فوق الشاب العبقري “ كان يمكن أن تنتهي الرواية عند هذا الحد، ولكن الكاتب الذي بدا شديد الاهتمام بالحدث بوصفه بؤرة السرد المركزيّة ، مضى في خطابه الذي تتبّع فيه الأثار التي ترتّبت على هذا الحدث في إطاره الذاتي والعام فمضى محلّلاً وشارحاً ومستشرفاً ومتأملاً فيما يمكن أن يعدّ من الناحية الفنيّة ترهّلا ، ولكن القارئ المتأمل يدرك أن ما أفاض فيه الكاتب على لسان الراوي يمكن أن يتّسع له السرد الروائي في سياقه التاريخيّ على أنه مما تحتمله الرواية بوصفه لوناً من ألوان التجريب الذي ي يتّسق مع طبيعة الفن . من هنا تتبدّى الإشكالية الفنّيّة في الرواية حول طبيعتها النّوعيّة ؛ فينظر إليها من زاويتين :الأولى تردّها إلى التقليد حين كان الفن الروائي في بداياته فعدّ حضور الكاتب في الرواية خللاً فنّيا ومباشرة غير مستساغة ، ومن زاوية أخرى يُعدّ ذلك لونا من ألوان التجريب ، حيث يحضر المؤلف بثقله ليطلّ على المتلقّي محفّزاً له على استيعاب الموقف وتبنّيه في لون من ألوان التغريب الذي ينبّه القاؤيء إلى حقيقة أنه يقرأ نصّاً فنّياً يطلّ على الواقع من خلاله فهومن صنع المخيّلة وليس واقعاً.
مشاركة :