الشارقة: غيث خوري يقف الفنان الفرنسي جورج براك (1882 1963) في طليعة حركة الفن الثورية، التي انطلقت مطلع القرن العشرين، وهو أحد رواد الاتجاه التكعيبي في الفن التشكيلي، فهو فنان فذ متعدد المواهب والانشغالات بين الرسم والنحت والحفر، ومبتكر تقنية «الكولاج» رفقة بيكاسو الذي شاركه ريادة التكعيبية والبحث والتجريب الفني؛ بغية تطوير هذا المفهوم الجديد، ومنحه تصوراته الخاصة.ترك براك بصمات فنية أكدت فرادة موهبته وخصوصيته، عبر كل مراحل الفن التي مر بها، فقد تأثر في صغره بالانطباعيين الذين كانوا يلتقون في بلدة «أرجنتوي» مسقط رأسه، وكان يتأمل بشغف كبير أعمال مونيه التي صورت تجليات الطبيعة على ضفاف السين، إلى جانب إنتاج أوجين بودان وكميل كورو وفان غوخ، وفي خريف 1905 اكتشف براك لوحات ماتيس ودوران وفلامينك ذات النزعة التوحشية، وانخرط في هذه الحركة رفقة صديقه أوتون فريز، لكنه سرعان ما طور أسلوبه عبر رسمه مناظر تتوارى فيها الأبعاد، وتظهر الأشياء المرسومة بأحجامٍ هندسية، وهنا كانت البداية مع التجارب التكعيبية التي خاض غمارها مع بيكاسو، وتبعهم عدد من الفنانين الذي اتخذوا من هذا المشروع أساساً لممارساتهم الفنية.في بدايات القرن العشرين ظهرت ثلاث حركات فنية في الوقت ذاته تقريباً، وهي: التكعيبية في فرنسا، والتعبيرية في ألمانيا، والمستقبلية في إيطاليا، وجاءت التكعيبية في أعقاب الحركة الوحشية، بعد أن رفض فنانوها مبدأ محاكاة الطبيعة، متجهين نحو اختزال الأشكال الطبيعية إلى أصولها الهندسية، ثم إعادة صياغتها من جديد في صور بعيدة عن عناصرها الأصلية، ويرجع الفضل في نمو هذه الحركة وانتشارها إلى محاولات بابلو بيكاسو وجورج براك لتطوير فكرة سيزان الهندسية، فقد كان سيزان يرى في الأشكال الطبيعية مساحات هندسية مبسطة، وأن كل جسم في الطبيعة يمكن تحويله إلى معادلة هندسية، أي إلى مربع أو دائرة أو مخروط أو مكعب.في أوائل عام 1907م، بدأ بيكاسو العمل على لوحة «آنسات أفينيون»، والتي صور فيها أجساد النساء، جاعلاً إياها مملوءة بالزوايا الحادة، مركزاً جلّ اهتمامه على تكوين الأشكال دخل اللوحة، أما اللون فقد استخدمه فقط لفصل الأشكال عن بعضها، وقد أتت أهمية هذه اللوحة بالقدر الذي أثير حولها من جدل بين النقاد؛ حيث إن بيكاسو قد تمرد في هذه اللوحة ضد الأسلوب الغربي التقليدي ليبدع شيئاً مختلفاً، وهو ما دفع براك للذهاب في نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1907م، لاستوديو بيكاسو لرؤية اللوحة، وقد تعرف إلى بيكاسو عن طريق الشاعر أبولينير، وبدأ براك يجرب هذا الأسلوب الفني الجديد، وأنجز في العام 1908م لوحة «منازل في ليستاك» التي رسمها بشكل فريد، مصوراً مجموعة من المنازل في ليستاك، وهي قرية فرنسية صغيرة تقع إلى الغرب من مرسيليا، بطريقة تعمد إلى الأشكال الهندسية البسيطة ويغيب فيها المنظور. ارتبط براك وبيكاسو بصداقة قوية دفعتهما للعمل معاً، حتى أن براك نفسه وصف هذه العلاقة بأنها مثل «اثنين من متسلقي الجبال وقد ربط كل منهما بالآخر بواسطة حبل»، وقد استطاع براك بمهارة رسم الأشخاص والمناظر وكافة عناصر الحياة اليومية في صورة أشكال هندسية، وكانت ألوان لوحاته يغلب عليها تدرجات البني والرمادي، وهنا تتضح إحدى السمات المبكرة للتكعيبية؛ حيث اعتمدت في بنائها على تحليل الأشكال ثم إعادة تجميعها، وهكذا أصبح الشكل في المرتبة الأولى بعد أن عالجوه عن طريق اللجوء إلى دراسة هندسية، أما اللون فقد جاء في المرتبة الثانية.وقد قسم مؤرخو الفن التكعيبية إلى مرحلتين أساسيتين، المرحلة الأولى عرفت باسم «التكعيبية التحليلية»، والتي امتدت في الفترة بين عامي 1908 و 1912م، وقد اكتسب أسلوب براك وبيكاسو خلالها تعقيداً كبيراً، عبر استخدامهما بشكلٍ منهجي مبدأ تقسيم أشكال الأشياء إلى سطوح غير متمايزة، متداخلة بطريقة تخلق التباساً كبيراً لدى المتلقي، وبذلك، ابتعد الفنانان عن تمثيل الواقع، ومن الأعمال التي أنجزها براك في هذه المرحلة «زجاج على طاولة» 1909م، والتي صور فيها طاولة خشبية دائرية، على سطحها قدح زجاجي في الوسط، بجواره في الأعلى من جهة اليسار ثمرتان من ثمار الإجاص، وفي الوسط من أسفل جهة اليسار شكل مكعب صغير، مستخدماً اللون الأصفر والبني بشكل رئيسي في اللوحة، مع لمسات من الأزرق والأحمر والأخضر، كما أنتج في هذه المرحلة أيضاً لوحة «طبيعة ساكنة مع كمان وإبريق» في عام 1910م.صور براك القناني الزجاجية والأسماك طوال حياته المهنية، والتي شكلت إحدى العلامات الرئيسية في إنتاجه، وتقف لوحة «زجاجة وسمكة» كأحد أبرز الأمثلة على أعماله، خلال ما عُرف بالتكعيبية التحليلية، عندما كان يعمل مع بيكاسو.أما المرحلة الثانية فعرفت باسم «التكعيبية التركيبية»، واستمرت بين عامي 1912و 1919 م، والتي تميزت باستخدام الألوان المشرقة بشكل أكبر، أما الأشكال والخطوط فاستخدمت بشكل أكثر بساطة، وبدأ براك بإدخال أرقام وحروف إلى لوحاته، كما ابتكر تقنية الملصق التي سمحت له ببلوغ تشكيلات يمكن إنجازها بسرعة بواسطة مقصّ وقليل من الصمغ، وبالتالي بالعودة إلى بساطة شكلية كان قد فقدها في المرحلة السابقة. اهتم براك بحقيق التوازن والتناغم في أعماله، خصوصاً ما أنتجه بتقنية الكولاج التي طورها مع بيكاسو عام 1912، إلا أنه أخذ تقنية الكولاج إلى فضاءات أبعد، من خلال قص ولصق الإعلانات على الكانفاس، وهو ما مهد الطريق لظهور حركات الفن الحديث، التي انشغلت بنقد الإعلام، وكان بين أشهرها حركة «البوب آرت». ساعد الكولاج براك على إدراك أن اللون يعمل في وقت واحد ومتزامن مع الشكل، دون أن يكون له علاقة به، وقدم أولى لوحاته بتقنية الكولاج بعنوان «طبق فاكهة وزجاج» بأبعاد 26.9× 45.7 سم، وذلك باستخدام قطع من الورق المطبوع، وأقلام الفحم، وألوان الغواش على سطح ورق الرسم، وتعد هذه اللوحة هي أكثر لوحات براك شهرة، والتي صورها بعد قضاء عطلته في مدينة «بروفنس»، وفي هذه اللوحة لصق براك قطعتين من الورق المطبوع، بشكل تعريقات الخشب، عمودياً على جانبي ورقة كبيرة بيضاء؛ للدلالة على جدران الحانة، واضعاً قطعة أخرى صغيرة بشكل أفقي في الجزء السفلي من اللوحة، حيث تمثل طاولة خشبية، وقد رسم عليها باستخدام ألوان الغواش دائرة صغيرة وكأنها مقبض دائري لدرج الطاولة، مضيفاً رسم وعاء زجاجي، وإجاص، وعنب، وشموع. في عمله «طبيعة صامتة مع أحرف» 1914 اعتمد براك هندسية التكوين والرؤية والبنائية للشكل، للأشكال المهتزة التي ظهرت في أعمال التأثيريين، فنلاحظ في هذا العمل أنه اهتم بالخط كقيمة تشكيلية أساسية، فحدد أشكاله بخطوط حادة متقاطعة، وهو التقاطع الذي ولّد أشكالاً موشورية ومربعات ومثلثات، ونادراً ما استخدم الخطوط المنحنية في الدائرتين الموضوعتين داخل الشكل، وقد تنوعت درجات الظل والنور؛ حيث وزع براك المساحات القائمة حول العمل، ثم ركز بقعة إضاءة في منتصف الشكل كنقطة جذب لعين المشاهد، واعتمد في هذا العمل على المساحات الظلية ذات الطابع المسطح في بعض المساحات، إلا أنه درج الظلال في أماكن أخرى.في مطلع الثلاثينات كرس براك تكعيبيته بإعطائها بعداً إنسانياً وفنياً، من خلال توازن مقاربته التشكيلية المزاوجة بين الظلال والأضواء والفضاءات، في حلة إيقاعية تبعث على التأمل الشاعري، ودخل في مطلع الأربعينات مرحلة جديدة بسلسلة من لوحات لعبة البلياردو، التي حول بها المشاهدين إلى لاعبين، وتلاها بمرحلة الورشات التي أضحت موضوعاً محبباً لديه، مثلها مثل لعبة البلياردو، وصاغ فنياً هذه المواضيع الفنية المختلفة في قالب تكعيبي مرتكز دائماً على تناغم مدروس ومتوازن بين مختلف العناصر التشكيلية، وقبل أعوام قليلة من رحيله وبعد أن رسم عام 1953 سقف قاعة هنري الثاني بمتحف اللوفر، دخل براك مرحلة جديدة استمرت من 1954 إلى 1962 ميزت عطاءه بواسطة سلسلة من اللوحات، التي تحولت فيها العصافير المتوجهة نحو آفاق رحبة وغير محدودة إلى مصدر إبداع تشكيلي وشاعري، مثل لوحة «العصفور الأسود والعصفور الأبيض» التي أنجزها عام 1960.
مشاركة :