ثقافة النكران - علي الصراف

  • 4/10/2017
  • 00:00
  • 33
  • 0
  • 0
news-picture

دأب النظام في دمشق على نكران جرائمه، كما دأب داعموه على توفير الغطاء له لكي يرتكب المزيد. ولئن ظلت الأدلة تتراكم على أن هذا النظام يعامل شعبه باحتقار، قبل أن يعامله بوحشية، فإنه كان يفعل ذلك انطلاقاً من عمى أخلاقي يمنحه القدرة على أن يبرر لنفسه أي شيء وكل شيء، دون واعز من ضمير، ولا من أي اعتبارات قانونية أو إنسانية أخرى. وأستطيع الزعم أن استخدام أسلحة كيميائية ليس أسوأ شيء. الأسوأ منه أن يتعرض مئات الآلاف من البشر لأبشع أعمال التعذيب في السجون والأقبية، من دون أن تتوفر القدرة للضحايا أن يرفعوا أصواتهم بالتنديد، ولا أن يطالبوا بمعاقبة المسؤولين عنها، ولا إيجاد سبيل لوضع حد لها. إن ترويع الضحايا قبل سحقهم بأسوأ مما تُسحق الحشرات ممارسةٌ تكاد تكون هي النظام نفسه. لا يوجد نظام في دمشق من دون تلك الوحشية التي ظلت تشكل عامل الردع والتخويف ضد ملايين البشر من أجل إجبارهم على الرضوخ والصمت وتحمل الإذلال. يمكن للمرء أن يلاحظ، أن السوريين، في غالبهم، يتحدثون بلغة متحفظة ورمزية، ليس عندما يتحدثون في السياسة فحسب، وإنما في أحاديثهم العامة أيضاً. تاريخ طويل من القمع الوحشي هو الذي علمهم تلك اللغة! وأكاد لا أعرف وحشية أبلغ من هذه، عندما تسحق مجتمعاً بأسره وتجعله رهينة للخوف والذعر، فيضطر إلى حشو كلامه بالرموز والإيحاءات غير المباشرة، أو التي تقدم دلالة على معنيين متضاربين، من أجل أن ينجو من العاقبة المُرّة. وعندما تتوفر الأدلة القاطعة، بالأسماء والصور، على سحق مئات الآلاف من أجساد البشر بأيدي وحوش لا علاقة لهم بجنس البشر، فهذا أسوأ بكثير من استخدام أسلحة كيميائية. إنه واحد من الدلائل على أن «الإفلات من العقاب» تحوّل، هو نفسه، إلى «ثقافة» أو قناعة ثابتة لمن يرتكبون تلك الجرائم، وهو ما يبرر لهم ارتكاب المزيد. وفي كل مرة، فليس من المستغرب أبداً أن تقوم السلطات بإصدار بيانات تُنكر وتستنكر وتقلب الاتهام إلى آخرين، أو أن تتذرع له بأوهى الذرائع. هذا نظام يتحدى كل شيء من القيم الإنسانية، بل ولا يلتفت إليها أصلاً. إنه من الوحشية بمكان، بحيث تحولت ساديته إلى نوع فريد من السايكوباثية التي تمارس وحشيتها بالنكران ليس بأقل مما ترتكب. ولا أستطيع الحكم، كم من هذه السايكوباثية قد انتقل إلى داعمي النظام لكي يمارسوا نكرانه. ولكن في النهاية، فإنهم إذا كانوا يدعمونه لأجل خدمة مصالح إستراتيجية لهم، فإنهم في الواقع يدمرون هذه المصالح عندما يحولون أنفسهم إلى شركاء فعليين في الجريمة حيال شعب يتم ذبحه كل يوم. الشعب السوري الذي تمرد على هذا النظام، كما تمرد على كل وحشيته، كما تمرد (وهذا أهم) على لغته المقموعة نفسها، لن يعود إلى الوراء. هذه حقيقة أولى يتعين أخذها بالحسبان. ولئن كان داعمو النظام يعولون على نصره، لعله يتمكن من إعادة كتابة التاريخ وفقاً لتصوره السايكوباثي الخاص، فإن انتصاره مستحيل. لأن تمرداً بذاك الحجم، تطلب حرب دمار شامل ضده، لم يعد يُفسح المجال لانتصار الوحشية. يمكن لداعمي هذا النظام أن يمارسوا هم أيضاً ثقافة النكران. لا بأس. ولكن عليهم أن يدركوا أن ذاكرة الألم المُرّة لم تبق مكاناً للمغفرة.

مشاركة :