علي الصراف يكتب: الإمارات وإسرائيل ونكران الجميل

  • 8/16/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لو أن السلطة الفلسطينية سحبت سفيرها من القاهرة وعمّان، بعد سحب سفيرها من أبو ظبي، لكانت في موقف أخلاقي أفضل. إلا أنها لن تفعل. ليس لأن “التطبيع” بين مصر والأردن مختلف عن “التطبيع” مع الإمارات، بل لأن الرؤية التي تنقصها الاستقامة هي التي تتحكم في وجهة التصرف. ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أن السلطة الفلسطينية تريد للدول العربية أن تعيش على سطحين. كتلك الحماة التي تغطي ابنتها مع زوجها على سطح، لأن الجو بارد. وتكشف الغطاء عن ابنها مع زوجته، لأن الجو حار. وهذا ليس فيه من السلوك القويم شيء. ولكن هناك ما هو أسوأ منه بكثير. لقد مر على الصراع مع إسرائيل الكثير. وما من دولة عربية إلا وقدمت فيه تضحيات وخسائر. وعلى امتداد نصف قرن تقريبا، أو منذ نشأة منظمة التحرير الفلسطينية، حتى يوم الناس هذا، قدمت الإمارات من الدعم، بأشكاله المختلفة، ما لا حصر له. شيء من نكران الجميل هو الذي دفع السلطة الفلسطينية الى أن تضع ذلك جانبًا، وتفاضل عليه الغضب والتسرع والهجمات غير اللائقة. هذا أسوأ من اقتراح العيش على سطحين. ولكن هناك ما هو أسوأ منه أيضا. العلاقات المصرية الإسرائيلية كانت ثمرة من ثمار اتفاقات كامب ديفيد. الرئيس الراحل أنور السادات، لمن يستدرك التاريخ، لم يقدم عرضًا انفراديًا. نحن الذين جعلناه انفراديًا بثقافة نكران الجميل ذاتها، التي أنكرت على مصر مكانتها ودورها وحقها في البحث عن سبيل لتحرير أراضيها المحتلة. ما حصل هو أننا (وأعني معظم الدول العربية، من بغداد الى نواكشوط) قررنا مقاطعة مصر، وآثرنا عزلها، واستعدينا شعبها فوق قيادتها بطردهم من حيثما كانوا يعملون، واخرجناها من الجامعة العربية، بل ونقلنا مقرها الى تونس. وبطبيعة الحال، فقد أغلقنا سفاراتها وقاطعناها في الثقافة حتى لكأننا أدرنا ظهورنا الى نجيب محفوظ وطه حسين وأحمد شوقي وتوفيق الحكيم وعبد الباسط عبد الصمد ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم. وكان ذلك واحدًا من أكبر الحماقات في الأخلاق والسياسة. وبل واحدًا من أكبر المضار التي ألحقناها بالقضية الفلسطينية. وعلى الرغم من كل العنتريات التي قمنا بدلقها، حارة وباردة، على مصر، فإننا لم نحارب إسرائيل من بعد ما حاربت. وفي النهاية، لا التطبيع المصري كان تطبيعا شاملا بحق، لأن العلة-الأساس ظلت قائمة، ولا تراجعت مصر عن كامب ديفيد أيضا. بعد مضي أكثر من عشر سنوات، عدنا لندرك أن مصر هي مصر. وأن الرئيس محمد أنور السادات كان بوسعه، لو تم التعامل معه باحترام وثقة، أن ينجز اتفاقًا أفضل. وأن تبقى مصر، بثقلها كله، داخل المعادلة لا خارجها. اليوم جاء من يكرر الخطيئة ذاتها مع الإمارات. حتى لكأنه لم يفهم شيئًا واحدًا من دروس تلك التجربة المُرة. ومثلما كان الوقوف الى جانب مصر، في ذلك الوقت هو الشيء الصحيح، فإن الوقوف الى جانب الإمارات اليوم هو الشيء الصحيح. المسألة ليست مسألة “تطبيع”. ولكنها مسألة ماذا تقصد منه، وماذا تحصل في مقابله. وإنما نحن أهل شعارات وكلام فارغ وهذيان ثوري أكثر مما نحن أهل عمل ونتائج ملموسة نعمد من خلالها الى تغيير واقعنا البائس. ويضيق صدر العنتريين بأن يكون للإمارات مصالح. وكأنهم هم الذين يتعين أن يقرروا لكل دولة حدود ما تقتفي أثره من مصالحها. بمعنى أن يمر الجمل من ثقب الإبرة الذي يختارون. وهذا سلوك مُبالغ في الشطح والشطط. الصغائر كانت هي التي دفعت بعض الذين شاركوا في مؤتمر قمة بغداد عام 1978 الى مقاطعة مصر، وليس تحرير فلسطين، ولا حتى خدمة أي شيء فعلي لقضيتها. الرئيس الراحل حافظ الأسد، أراد أن يلعب دور البطل الذي سيحارب “في الزمان والمكان المناسبين” لكي يحصل على الدعم المالي، فدعمناه، ولم يحارب. والرئيس الراحل صدام حسين غلبته الحمية العروبية، على أمل أن يفتح له الأسد بابا للوصول الى الجبهة، إلا أن الأخير أغلقه عليه بل وتآمر ضده. وكسب بعض الآخرين النجاة بالشعارات لكي لا تنقلب عليهم “الجماهير”. وتحول معمر القذافي الى “بطل قومي” بديل لجمال عبد الناصر. ومن بعد كل الوقت، وكل الدعم، وكل التضحيات، وكل المصائب، فإننا لم نحرر شبرا واحدا، ولا حتى من الجولان نفسه. الآن، ما هي الصغائر التي تحرك العنتريين ضد الإمارات؟ وهل بيدهم ما يمكنه أن يغير مسارات الانهيار والتداعي التي استهلت ثلاثة أرباع فلسطين؟ ولو كانوا فاعلين، فهل سيمنعهم أحد؟ معقول تماما، في السياسة، أن نختلف. هذا أمر طبيعي ومفهوم. بريطانيا ثقبت قارب الاتحاد الأوروبي، من دون أن ينسحب سفير أوروبي واحد من لندن. لأنك حتى وإن كنت سوف تخسر شيئا، بحسب تصورك للأمور، فمن الحكمة ألا تخسر كل شيء، وألا تستعدي عليك صديقا وأخا كانت له عليك فضائل. السفير الفلسطيني، بمقدار قليل من العقل والحكمة، يجب أن يعود غدا الى أبو ظبي.

مشاركة :