علي الصراف يكتب: نكران الواقع

  • 1/19/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

عندما تطلق رصاصة على الواقع، فإنه يرد عليك بكل المدافع. فالذين ينكرون الواقع، غالبا ما يدفعون الثمن مرتين أو أكثر. وبدلا من أن يخرجوا من مغالبة الواقع خاسرين، فإنهم يخرجون منها مدحورين. وهناك ثلاثة نماذج عجيبة لذلك. الأول، دونالد ترامب. والثاني، علي خامنئي. والثالث، رجب طيب أردوغان. أنكر الرئيس ترامب خسارته في الانتخابات، وظل يزعم أنه هو الفائز حتى خسر كل شيء، بما في ذلك الاحترام. النتائج كانت واضحة. وهو لم ينجح في تقديم أدلة على التزوير. ورفضت المحاكم كل دعاواه. وتمسكت كل الولايات “المتنازع عليها” بما انتهت إليه أعمال الإحصاء، ورفض مزاعمه حكام جمهوريون، ولم تتخل المجمعات الانتخابية عن أداء الواجب التقليدي كما تقتضيه الأعراف، وانتهى الأمر الى الكونجرس، ليؤدي هو الآخر واجبه الإجرائي التقليدي، ولم يكن ثمة مبرر واحد للاعتقاد بأن تظاهرة أو اقتحام الكونجرس سوف يفعل أكثر من إقرار الواقع. فانساق وراء غطرسته، حتى وجد نفسه معرضا لمحاكمة جديدة في الكونجرس، ليكون الرئيس الأول وربما الوحيد في تاريخ الولايات الذي يتعرض لها مرتين. وبدلا من أن يترك البيت الأبيض رئيسا يحترم التقاليد التي أوصلته إلى الرئاسة، فإن غروره دفعه إلى شق العصا على تلك التقاليد، وانتهى مدحورا لا خاسر فحسب، عندما هرب من يوم تنصيب خليفته. وهو يوم مهم، ليس لأنه يوم “تسليم وتسلم” تقتضيه القواعد الديمقراطية فحسب، بل لأنه يوم لحفظ المكانة والاحترام الشخصيين بين “رئيسين” سابق ولاحق علي خامنئي يدفع بلاده إلى أن تصبح قوة نووية. وهو يرفض تقييد برنامجها للصواريخ الباليستية كجزء من حوار على اتفاق نووي جديد. دول المنطقة والاتحاد الأوروبي، فضلا عن الولايات المتحدة نفسها، تقول إن الاتفاق النووي لعام 2015 انطوى على ثغرات قاتلة، وإن أي اتفاق جديد يتعين أن يتضمن كبح برنامجها الصاروخي وكبح تدخلاتها الخارجية ومليشياتها ومنظمات الإرهاب التي تتلقى الدعم منها. وبدلا من أن يصغي إلى الواقع، ليرى أن برنامجه الصاروخي ذاك قد تحول إلى تهديد ليس لدول الجوار وحدها، وإنما للقطعات الحربية الأمريكية في المحيط الهندي والخليج العربي، وأن ميليشياته صارت تهدد الولايات المتحدة في مصالحها في العراق، ونفوذها الإقليمي برمته، فقد اختار أن يزيد الطين بلة عندما بدأت إيران برفع مستويات تخصيب اليورانيوم إلى حد يفوق بخمسة أضعاف الحد المسموح به في الاتفاق النووي السابق، وليفتح الطريق أمام تحول إيران إلى قوة نووية. ومثلما ظن الرئيس ترامب أن اقتحام الكونجرس سوف يرد الرئاسة إليه، فان خامنئي يعتقد أن اقتحام العقبة النووية سوف يؤدي إلى رفع العقوبات عن إيران، ويعيد الثقة بها كطرف جدير بالاحترام في أي اتفاق جديد. ولكن العقوبات سوف تستمر بل وتزداد شدة. ويمكن لتحول إيران إلى قوة نووية أن يدفع السعودية أو مصر إلى أن تتحول إلى قوة نووية، الأمر الذي يُبطل القيمة من المشروع من دون أن يؤدي إلى رفع العقوبات أو حتى تخفيفها عن إيران. وهي كلما مضت خطوة في هذا الطريق، فإن العقوبات لن ترفع إلا بالتراجع عنها واحدة بعد الأخرى. ولا شيء يبرر القول إن إيران سوف تتعرض إلى ضربة عسكرية من إسرائيل، أو أن تقوم هي بضرب إسرائيل. فهذه كذبة كبيرة، لا تزال تتردد منذ 30 عاما، ثلاث مرات في الأسبوع، من دون طائل. ولكن العقوبات القائمة التي تدفع إيران إلى حافة الإفلاس سوف تنتهي بها إلى الإفلاس فعلا. شيء من الواقع سوف يدفع علي خامنئي إلى أن يرى بأم عينيه كيف سيخرج مدحورا بدلا من أن يقبل الخسارة. رجب طيب أردوغان يفعل الشيء نفسه في شرق المتوسط وفي ليبيا. محاولاته لتغيير الخرائط في المتوسط تصطدم بصخرة الواقع القائل إن اليونان وقبرص لن تتنازلا عن شبر من حقوقهما البحرية. وإنهما بحاجة إلى ثروات البحر من النفط والغاز ليس بأقل من حاجة تركيا نفسها. وهما تحظيان بدعم لا لبس فيه من جانب كل دول الاتحاد الأوروبي. وإذا كان أردوغان مدفوعا بمحاولة تغيير الواقع على أساس الاعتراض على الماضي، كما حددت خرائطه معاهدة لوزان لعام 1924، فإن خريطة تركيا الراهنة جزء من ذلك الماضي. ونسف جزء، لا بد أن يقتضي نسف الجزء الآخر. والانطلاق من ذلك الماضي من رؤية عثمانية، خيار مريض من وجهة نظر الواقع. لأن تلك الرؤية كتبت هزيمتها بنفسها، وانهال عليها تراب قرن من الزمان، وسلسلة طويلة من الأسس الجغرافية السياسية، فضلا عن “النظام الدولي” الجديد نفسه الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتكرس في الثانية. ولسوف يحتاج إلى ثالثة لكي يمكن أن يتغير. أما في ليبيا، فإن تدخلاته هناك محكومة بالفشل، ليس بسبب الموقف الدولي والإقليمي منها، فحسب، بل بسبب الموقف الشعبي الليبي نفسه أيضا. الليبيون لا يُحكمون ولا يُتحكم بهم من الخارج. ولو كان هناك بينهم عملاء، فإنهم عملاء منبوذون في النهاية، ولن يقووا على البقاء في السلطة يوما واحدا بعد أن يستعيد الليبيون قدرتهم على حكم أنفسهم بأنفسهم. هزيمة الإخوان في الانتخابات البلدية الأخيرة، كما هزيمتهم في الانتخابات البرلمانية السابقة، قالت الشيء وكررته بذات الوضوح. وهو أن عملاء أردوغان ومأجوريه لن يتمكنوا من تقديم ليبيا له على طبق. وبدلا من أن يخرج منها راضيا بالخسارة، فإنه سيخرج منها مدحورا. هذا هو الواقع، وتلك هي مدافعه.

مشاركة :